رواية عملاق قسنطينة عود على بدء

9

رواية ” عملاق قسنطينة” :عوْد على بدء للكاتب سعيداني الهاشمي رحمه الله

بولمدايس عبد المالك

 

” عملاق قسنطينة ” رواية قديمة نشرت سنة 1984 بمناسبة فوزها في المسابقة الأدبية التي أقامتها مديرية الثقافة و السياحة و الإعلام لولاية قسنطينة و الرّواية هي من مقتنيات والدي الكريم رحمه الله تعالى ..تردّدت كم مرّة في الإقدام على قراءتها و أخيرا تجرّأت و فتحت أبواب فصولها فوجدتها ممتعة فلم أطلق سراحها حتى أتيت على آخر كلمة منها ، و لعميق تأثيرها على نفسي سجّلت هذه الملاحظات فأحببت أن أشاركها غيري تعميما للفائدة من جهة و إحياء لذكرى أديب صحافيّ مترجم كرّس حياته للأدب و الثقافة و الفكر..

  • العنوان : ” عملاق قسنطينة” عنوان يوحي بالكثير في مخيال القارئ و العنوان له خصوص و عموم..فهو و إن كان يتحدّث عن شخص بعينه غير أنّه يعمّ جميع الشخصيات حيث يعكس بجلاء صورة كلّ مقاوم و مقاومة معروف النسب و المصير أو من المجاهيل ..فالعملاق صفة ونيشان لمن جعلوا من أرواحهم جسورا لعبور الأجيال اللاحقة نحو الحريّة و ميادين الشرف التي حرموا منها ..و العملاق في المخيال الشعبي يوحي إلى الضخامة و القوّة و الانتصار و إشاعة الخوف في قلوب المستعمر و المعمّرين..
  • فصول الرواية الثّمانية تعمد إلى أسلوب الإيحاء النّفسي و يركّز كثيرا على الأجواء و الأحوال النّفسية التي تنتاب أبطال الرواية و خاصة البطل الرئيسي “ريبوح” ، و هو صراع طبيعيّ لا يفارق كلّ جزائريّ حرّ أبى أن يعيش الضيم و الذلّ و المهانة ..هذا الصراع النّفسي الحاد و المرير و غير المنقطع يغرق البطل في صراع مع نفسه و مع أقربائه و المجتمع و قد انعكس في صورة فكر رابض مستمر، و قلق متراكم ضاغط و بذلك يقرّر الكاتب بأنّ النّصر الحقيقي يبدأ من داخل النّفس قبل أن يتجلّى في جهد و دفاع و كفاح ، و تعكسه السيطرة الكاملة على هواجس النّفس الضاغطة و الأحاسيس المقلقة المتجدّدة ..و هذه الحالة النفسية قد تجسّدت تقريبا في كل شخصيات الرواية بكميّات متبانية و لكّنها تصبّ جميعا في رفض المستعمر و بضرورة مقاومته و رفع الغبن المسلّط على الشعب و التراب ..
  • أبطال الرواية: عمد المؤلّف إلى اختيار أبطال و شخصيات الرواية من عموم الشّعب و بسطائهم أي ليس ممن تعلموا و تحصلوا على أكبر الشهادات من جامعات كبرى أو ممن يعرفون بأعيان القوم و وجهاهم و أغنيائهم و مزج بين الذكور و الإناث حتى لا يغمط من حق المرأة الجزائرية و دورها الكبير المائز في إنجاح مسار الثورة و تحقيق النصر و التحرير..و تمثّلت هذه الشّخصيات في:

2-1- “ريبوح” : شاب من عموم النّاس لم يسعفه الحظ في بأن يقرأ و يتعلم لكنه شخصية تمتاز بكارازمية خاصة من صرامة و رقض للذل و الصغار و الحقرة من أي جهة كانت و كان من نتائج هذه الأخلاق عواقب عدّة من تهميش و طرد من العمل و زج في السجون و حصار كبير و هجرة و اغتراب..

2-2- عمار البونته:هذا الفدائيّ المقاوم المخفي الذي لم يأخذ حقّه الكامل في الاعتراف ببطولاته الفذة رغم ما قدّمه من تضحيات جسام انتهت باستشهاده ..و هذا البطل يعكس بحق رحال الظلّ و نساء الظل كذلك و ما أكثرهم و كيف ساهموا في إنجاح الثورة بعملهم السّريّ الخفيّ ..هذه الفئة التي لم تنل حقّها أثناء أو بعد الثورة و لم يذكرهم التاريخ إلا عرضا و ناذرا..

2-3- جعفر أخ  ريبوح: تعمّد المؤلف إقحام هذا الصنف من الرجال الأبطال الذين كانوا في ظاهرهم عملاء و مقربين من المستعمر غير أن حقيقتهم أنهم كانوا قد وظفوا من طرف الثورة كمخبرين و عملاء ليسهل عملهم في نقل الأخبار و جميع خطط و مشاريع العدو ..و كم ظُلم الكثير من هذه الفئة و عانت أهاليهم بعد الاستقلال الأمرين و الويلات و الضغوط النّفسية ..

2-4- زوجة  “جعفر “: عمد المؤلف لإزالة عمالة جعفر و شبهات تقربه من المستعمر إلى إقحام زوجته في العمل الفدائي و ذلك بتنفيد عملية بطولية استهدفت رأسا كبيرا في الجيش الفرنسي مضحيّة بنفسها و ذلك عن طريق تفجير عبوة تخفيها تحت ثيابها ..و هذه التفاتة من المؤلف لتلك الفئة المظلومة و انتصار لها و تخفيف عنها من تلك الضغوط النفسية التي عاشتها عائلاتهم من بعدهم..

2-5- زبيدة حبيبة ريبوح :زبيدة هي قصة حب و عشق قديمة انتهت بزواج ريبوح منها و إقحام فكرة الحبّ في أحداث الثورة ليبين المؤلف نفسيات أولئك الأبطال المرهفة و بأنهم أرواح تشعر و قلوب تنبض بالمشاعر الحيّة الإنسانية..

  • تفنن الكاتب في إقناع القارئ عن طريق سرده للشواهد الكثيرة التي تثبت بأن الثورة قادها الشعب في صورة رجال بسطاء و نساء بسيطات لم يحوزوا على شهادات تعليمية عالية لكنّهم كانوا يملكون استعدادا منقطع النظير من الوعي و الولاء و الاستعداد للتضحية بكل شيء حتى أنه وصف بعضهم بالإنحراف كممارسة الزّنا و شرب الخمر ..
  • مشاركة المرأة في إنجاح الثّورة و تحرير البلاد و العباد قضيّة جوهرية و تعرضهن لأنكل العذاب و أمر الذل على أيدي قتلة لا رحمة في قلوبهم و لا إنسانية ..
  • الأمثال الشعبية كشواهد و أدلة على عمق الرواية الشعبي و كيف ساهمت في إضفاء حركية مميّزة في متون الرواية ..مثل قوله مثلا:”البركة في القليل” و قوله “المدفع يسكته المدفع” إشارة إلى المثل العربي “لا يفل الحديد إلا الحديد “..و للأمثال الشعبية تأثير كبير و آسر في نفوس القرّاء على اختلاف مستوياتهم الثقافية و اعتمادها يغرق القارئ في بحار هويته و ثقافته العربية الإسلامية و لا يخفى القيمة الدلالية الإجرائية للأمثال الشعبية في العملية التواصلية .
  • الجغرافيا و الأماكن و دورها في إغناء النص الروائي: يتضح جليّا بأن الكاتب رحمه الله عارف بجغرافيا مدينة قسنطينة و خباياها و شواعرها و تمثّل ذلك في سرد أكبر عدد ممكن من أسماء الأحياء و الشوارع هذا نزر منها بغير ترتيب:الكدية- نهج مصطفىى عواطي – الشّارع – باب القنطرة – عين الباي – القصبة – ساحة الشهداء الفجوة قديما – سيدي مبروك – شارع البساتين – البطحة – قهوة النجمة – سيدي راشد – الحامة بزيان – سوق العصر – مسجد سيدي حسن الباي – جبل الوحش – شارع فرنسا رود فرانس- السويقة – الطريق جديدة – الجابية – رحبة الجمال – لابريش – نهد فرنساالسطحة- المنصورة – الفوبور – باب الواد – .. و هذا يدلّ على إحاطة كاملة و قريبة بقسنطينة و أسرارها و خباياها لتساهم هذه الأسماء في إعطاء صورة واضحة عن عظمة هذه المدينة و بأنّ كل شبر منها قد قاوم الاستعمار ..
  • الأرياف و القرى و الدُّشر و دورها الفعّال في إسناد الثّورة مؤكدّا بذلك على الدور الفعّال و القويّ لها و بأنّ هذه الأخيرة كانت قد تعرّضت لأبشع العذاب و أمرّه و بعضها مُسح أهلها عن بكرة و دمروا تدميرا رهيبا وحشيا دون نسيان التعدّي على أعراض النساء و شرف الرجال و أكباد الصبيان ..و يكفي أنّ بطل هذه الرواية جاء من خارج قسنطينة أي من هذه الدّشر و القريات..
  • يشعر القارئ بأن الكاتب تعمّد ذكر شواره و حارات قسنطينة بأسمائها القديمة إلا نادرا ليعلّم الأجيال المستقبلية تاريخ و جغرافيا مدينة العلم والعلماء و الهوى و الهواء لأنّ الكثير من الأسماء قد تغيّرت و سميّت بأسماء الشهداء و الشهيدات و هذا ملمح تاريخيّ جدّ هام و نافع..

هذه بعض الخطوط العريضة التي تناولتها الرّواية بغض النّظر عن لغتها العربية الفصحى المتقنة و كثرة التشبيهات و الكنايات و الاستعارات و انفتاح النّص على احتمالات عديدة و تأويلات كثيرة و تسلسل أحداث الرواية المنطقي و نجاح الكاتب في تبليغ رسائله و أتصحيح بعض الأفكار الشائعة المغلوطة عن الثّورة ..

هذا فإن أصبت فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي و الشيطان…

بولمدايس عبد المالك

قسنطينة /الجزائر في 18 /08/ 2024

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع