كان الرهبان قديماً يعتزلون الدنيا و يتفرغون للعبادة طلباً لرحمة الله و خوفاً من عقابه .
كل شيء في الحياة لا يهمهم بل هم أصلاً لا يحبون الخوض في تفاصيل الحياة و لا يريدون أن تشغلهم زينتها و لماذا ينشغلون بها وبزينتها طالما أنها تبعدهم عن طاعة ربهم .
كانت لهم مكانتهم و كان طالب الموعظة يذهب إليهم و يشعر بالطمأنينة عند جلوسه معهم لكن دون أن يستفتيهم في أمور دينه .
كانوا سعداء بحياتهم و من لا يسعد بذلك طالما أنه و بالعامية مشتري راسه ؟
هم بالطبع يختلفون عن أولئك الذين يخوضون مع الناس ليبينون لهم أحكام ربهم و لا شك أن ذلك أفضل لكنهم كانوا مستمتعين بحياتهم طالما أن هنالك من يقوم بذلك عنهم .
و أنا أكتب هذا المقال تذكرت قصة ذلك الرجل الذي قتل تسعة و تسعين نفساً ثم ذهب للعابد الذي قال له ليس عليك توبة فقتله الرجل ثم ذهب للعالم فقال له ما يحول بينك و بين الله فصلح حال الرجل تذكرت ذلك فتذكرت الفرق بين الراهب و العالِم .
مرت الأزمنة و العصور و بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للبشر ليعلمهم الدين و يخرجهم من الظلمات إلى النور ثم ترك بعد وفاته عليه الصلاة و السلام إرثاً عظيماً هو ذلك العلم و تلك الدعوة فحمل همها صحابته رضوان الله تعالى عليهم ثم واصل بعد ذلك سلف الأمة ثم علمائها و سيستمر ذلك إلى قيام الساعة .
إن ذلك العلم الشرعي هو ما حفظ للأمة بقائها و ما ضمن لها استمراريتها بأمر الله عز وجل لكن لماذا تلك الرهبانية التي يريدها البعض لذلك العلم و البعض هنا ليسوا فقط من لا يريد لهذا الدين قائمة فهنالك صنف ثاني و هم بعض من ينتسب لذلك العلم الشرعي و عندما أذكر الصنف الثاني هنا فلست أتحدث عن تلك الرهبانية التي ذكرناها في بداية حديثنا .. لا .
إنها رهبانية من نوع آخر .
رهبانية العلم ..
رهبانية بعض حلقات العلم و مدارسها .
إن مجالس العلم بسكينتها و جمالها و روعتها قد لا تخلوا من تلك الرهبانية .
من الانغلاق و عدم الخروج للحياة .
إن هنالك من لا يريد لذلك العلم بأن يخرج للحياة و يكون على أرض الواقع و حصره في تلك الحلقات ليس كرهاً في نشر الدين .. لا .. لكن ذلك له أسباب كثيرة منها عدم قدرة أو تحرج أو خوف أو أن ذلك قد يكون سببه الركون إلى الكتب كما يركن صاحب اللذة لملذاته فيرضى بالقعود أو قد يكون تعصب أعمى أو لفكر ظن صاحبه أنه حق و كم من مريد للحق لا يدركه كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .
إنهم يريدون فقط تنظير و مدارسة و مراجعة مسائل و إذا أردنا أن ننزل تلك المسائل على الواقع أو نترجمها لمنهج يكون الرفض و كأنهم حكموا على ذلك العلم أو بعضه بالسجن في مجالسهم بل و يسمون من يخرج ذلك العلم إلى الحياة بأنهم أصحاب فتنة و كأن العلم سمكة لا ينبغي لها الخروج من تلك الحلقات كي لا تموت أو أن ذلك العلم حصري لطلابه لا يحق لغيرهم أن يعلمه و من يريد ذلك لا بد له من الحضور إليهم .
لنعلم أن ما يحدث للإسلام في شتى أنحاء المعمورة من قتل و تنكيل لهو بسبب ذلك أو بمعنى أصح أن ذلك من أسباب ما يحدث للمسلمين .
لا تبرز أقلامهم إلا لمنتقديهم و كل من لا يوافقهم هو ناقد أو بمعنى أصح ناقم عليهم كما يقولون و يريدون إرجاع الأمور لأهلها و هل هنالك أهل لا يريدون لمن يتبنونه أن يخرج ليكون له مكاناً في هذه الحياة أو أنهم يتنكرون لقضاياهم أو يتركوا تلك القضايا يتخطفها الطير فللبيت رب يحميه قالها عبدالمطلب في موقف و لم يكن يظن أنها ستصبح بعد ذلك منهاجاً يتخذه البعض للتنصل عن قضايا أمته .
إن الكتب هي من تقوم بحفظ العلم و أن دور البشر هو ترجمة ذلك العلم في الحياة و لا ينبغي للبشر بأن يتقمصوا دور الكتب و إن حاولوا أن يعيشوا دور الكتب فلا يغضبوا لو مزقتهم الأعداء كما مزقوا تلك الكتب في يوم مضى .
محمد الدباسي
مؤلف و كاتب صحفي
رئيس التطوير في اتحاد الكتاب و المثقفين العرب
maldubasi@gmail.com