خمريات ابو الحسن الششتري

888

الاستاذ المساعد : ليلى مناتي محمود
كلية اللغات / جامعة بغداد
ان نظرة عامة في خمريات الششتري، يجد انها اشعار بسيطة وسهلة في ظاهرها ، رغم وجود مصطلحات وتعابير صوفية كثيفة بدلالتها الرمزية الخاصة، مما ينم عن قدرة فائقة على مفاعلة التصوف بالابداع، فقد حاول استثمار الامكانيات التواصلية التي تتيحها اشعار الخمريات، وذلك يتبع ميراث السابقين بأعرافه وتقاليده، فإنه يتجاوزه، ويتجاوز كذلك ظاهر الشريعة، التي تحرم الخمر المادية تحريماً قاطعاً، فيلجأ الصوفي الى التأويل لايجاد أوجه التقاء بين جوهر الخمر، وما يحدث للصوفي من نشوة، وتغيب أثناء الفناء في الذات الالهية، وهكذا يكون السكر عند الصوفية مختلفاً عن السكر الناتج عن الخمر المادية في كونه يعقبه الصحو، ولا يعني الصحو هنا مفارقة حالة السكر بصورة تامة ، وإنما الترقي الى حالة أرقى ” لإن موضوعها نور خالص بل نور الانوار فلا عجب أن ينعكس سناها على سيماء العارفين والمحبين الالاهين”، فهي خمرة تشربت منها أرواح العارفين فلم يعرف الحزن طريقهم، لانه من أغترف من معين المحبة الالهية لايضمأ ابداً، بل إن المغترف لهذا الشراب الروحي يتجلى في باطنه” فرح ونشاط وهزة وانبساط”، لإنها “شراب الحقيقة يتجلى الله به على حقيقة بعض المخلصين الصادقين من عباده”.
وإذا بدأت في تناول المز الصوفي للخمر في النص الصوفي الاندلسي، نجد أنفسنا أمام الششتري الذي صور نشوته بالحب الالهي بنشوة الخمر فأتخذ نفس لغة شعراء الخمر السابقين بما تحتوي عليه من دنان وسقاة ، ولا شيء من ذلك” إنما هو جمال الذات الالهية دلع في قلبه وحواسه”، ليقول:
طاب شرابُ المدامِ في الخلوات أسقني يا نديمُ بلآنياتْ
خمرة تركُها علينا حرامٌ ليس فيها إثمٌ ولا شبُهُاتْ
عُتقِّت في الدنِّانِ من قبل آدم أصلها طيبٌ من الطيباتْ
ومن علامات التحول العرفاني لرمز الخمر، الكلام على الاديرة المسيحية والرهبان والنواقيس، بما يذكرنا بالخمريات الحسية بالعصر الجاهلي، ويحدثنا الاستاذ عاطف نصر عن وجه الارتباط بين الطقوس المسيحية والخمريات الجاهلية، فيقول”ويرجع الارتباط الى إن نفراً من تجار الخمر كانوا من نصارى الروم، وأن نفراً من الجاليات المسيحية التي أختلطت بالعرب، كانوا يعاقرونها”. اما الصوفية فقد اتجهت بهذا الارتباط متجهاً آخر، رمزت من خلاله بأهل الاديرة الى العرفاء الذين ورثوا مقاما عيسويا روحانياً، فهؤلاء الصوفية تذكروا هذه المدامة وأشرفوا بها على عالم الارواح المجردة عن الظلمات، فزج بهم في النور المحمدي الجامع لجميع مقامات الانبياء، ولا يفتأ الششتري يذكرنا بتجرد مدامته عما نعرفه من أغوار أذهاننا من صور محسة، فيقول:
ولمّا أتيت الدير أمسَيتُ سيّدا وأصبحتُ منْ زهوي أجر به الذيلا
سَألت عن الخّمارِأين مَحلَّهُ وهلْ لي سبيل للوصُوُل به أمْ لا
فقال لي القسَّيسُ ماذا تُريدهُ فقُلتُ أريدُ الخمرِ منْ عنده أملاَ
فقالَ ورأسَي والمسيحِ ومريّمِ وديني ولو بالدَّرِ تَبذلْ بهِ بَدلا
فقلت أزيدُ التَبرَ للدر قالَ لا ولو كانَ ذاك التُبرُ تكتاله كيلا
فقلت له أعطيك خُفي ومُصحفي وأعطيك عُكازاً قطعتُ به السبلا
فقال شرابي ـ جلَ عما ـ وصفته وخَمرتنا ممّا ذَكرتَ لنا أغلى
فقلت لهُ دَعْ عنك تعظيمَ وصفِها فخمرتكم أغلى وخرقتنا أعلى
ولكنَّها راحٌ تقادم عهدِها فما وصُفتْ بَعدٌ ولا عرفت قبلا
أقر بأنّ اللهَ لا ربَّ غَيرُهُ وأنّ رسول الله أفضلهم رسُلا
عليه سلام الله ما لاح بارقٌ وما دام ذكر اللهِ بينَ الورى يتلى
وهذه الخمرة مثل المحبة: قديمة أزلية ظهرت بواسطتها الاشياء وتجلت الحقائق، وأشرقت الاكوان “وهي الخمرة الازلية التي شربتها الارواح المجردة فانتشت، وأخذها السكر واستخفها الطرب قبل أن يخلق العالم”، ويؤكد ابن عربي هذا المعنى في قوله:
وأشرب سلافة خمرها بخمارها وأطرب على غرد هنالك ينشد
وسلافة من عهد آدم أخبرت عن جنة المأوى حديثاً يسند

جعل الخمر سلافة ـ فهي علوم ربانية ومعارف قدسية الهية تورث الابتهاج والفرح.
ويعلن احمد بن يحيى الالبيري عن أتجاهه التجريدي للخمر الحسية من متعلقاتها المادية، فجاءت تعبيراً جياشاً عن أفتراق الروح وهجرة النفس بوارد الجمال الالهي، فقد” سَكر سُكَّراً روحّياً حين طالعت روحه روعة الجمال الازلي المطلق”، أنه شراب بروضة الحب الالهي رحيقاً مصفى أمتزج بروحه فحنت قوى نفسه شوقاً الى عالم الحب الالهي، ليقول:
شربت بكأس الحب من جوهر الحب
رحيقاً بكف العقل من روضة الحب
وخامر ماء الروح فأهتزت القوى
قوى النفس شوقاً وأرتياحاً الى الرب
ونادى حثيثاً بالانين حنينها
الهي الهي من لعبدك بالقرب
أما ابن جنان فقد قدم نفسه وكينونته هدية للمحبوبة االتي أسكرت وعيه وتربعت على عروش احاسيسه فتألقت في اشعاره، وتوهجت في تراتيله سحراً وغيبوبة وانتشاء، فقد معها الشاعر تواصله بعالم الآدميين، فنظم في عرفهم ما يحتاج شرحاً وترجمة وتأويلاً، يقول:
له الكلّ مني بل هو الكلّ وحده فمن أنا ؟ لا أدري ، حَسري ولا أدري
فنيت به لمّا سّكرِت بحّبه فمحويّ إثباتي، وصحّويّ في سكري
سقاني بأكواس المحبةِ صرفها فيا حّبذا المحبة من خمري
فيا من سقاني من مدامة لطفه أدرها على حالات سري والجهر
اما لسان الدين بن الخطيب فلسانه يجول في الروحاني، فيستخرج ما بداخله من حالات وجدانية، ويعادل بينها وبين صور الخمر الحقيقية، إنه نزع عنها الثوب الحسي الذي ترفل فيه في فضاء الصورة الذهنية، وحرمها التحقق، وجعلها تنأى بجوهرها عن دلالة الوضع، فهذه الخمرة تتجاوز المعطى المادي، فهي إشراق أنوار التجليات الالهية على قلوب الذاكرين، يقول:
فأشرب على ذكر الحبيبِ وسقّني صهباءَ تشرقُ في الظلام الداجي
من خمرة السرِّ المقدسة التي كِلفت بطاساتها يدُ الحلاّج
وأرت له الاشياءُ شيئاً واحداً فغدا يخاطبُ نفسه ويُناجي
إذ يصرح العرفاء إنه كلما أتسعت معاني العرفان كلما ضاقت اللغة العادية عن أستيعاب مضامينهم، وبذلك يصبح غي الشاعر، تهتكه، وتمزيقه أثواب الوقار أشياء محببة ومبجلة، وهذا ما نجده في قول الششتري:
زارني من أُحب قبلَ الصباح فحلالي تهتُكي وافتضاحي
وسقاني وقال نم وتسلَّى ما على من أحبَّنا من جُناحِ
فأدر كأس من أُحِبُّ وأهوى فهوى من أُحبُّ عَين صَلاحِ
لو سَقَاها لميتٍ عادَ حيَّا فهي راحي وراحة الارواحِ
لاتلمني فَلست أصغي لِعذلٍ لا ولو قُطّع الحشا بالصياحِ

لقد نقل الششتري هذا ” التراث الخمري بأكسير العرفانية الى رموز شعرية، لوّح بها الى معاني الحب والغيبة عن النفس بقوة الواردات، والوجد الصوفي العارم واليكر الالهي المعنوي بمشاهدة الجمال المطلق ومنازلة الاحوال والتجارب الذاتية العالية”، ليقول:
شربنا كأسَ من نهوى جهاراً فهمنا عندَ رؤيته حيارى
وشاهدنا بها السَّاقي تجلىَّ فصرنا من تجليهِّ سكارى
طلبنا الأمن من ساقي الحُميَّا فنادى لاحجابَ ولا ستارا
رأينا الكأس في الحانات تجلى ظننا أنّ في الكاساتِ نارا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع