حلاوة الحب(قصة قصيرة)

406

خرجت من البيت على أطراف اصابعها واغلقت الباب الخارجي الخشبي الاخضر للدار بهدوء خلفها، لكي لا تلاحظ والدتها خروجها في عصر ذلك اليوم الربيعي لملاقاة حبيبها كعادتها كل يوم تقريبا منذ رحيل الشتاء القارص في تلك المنطقة الجبلية النائية وبدء فصل الجمال والحب ، فتبدأ بلومها كعادتها على هذه العلاقة التي طالت لسنوات وتبدو وكأنها بلا نهاية مفرحة … لكن مهما كانت ملامة الام متواصلة الا انها لم تعد تبالي لان ما كانت تشعر به ليس مجرد حب انما عشق تمتد جذوره الى سنوات طويلة … شعرت الأم بخروج ابنتها ركضت الى باب الدار وصاحت بها ( عودي قبل الغروب وانا حذرتك مرات عديدة قبل هذه المرة اتمنى ان تعودي قبل ان يعود والدك ) ، استدارت البنت وردت على امها ( ماما انا ذاهبة لكي اجمع الورد وليس لي موعد اليوم ) ، عادت الام الى الدار وهي تهز رأسها غير مصدقة ..
وقفت البنت الرشيقة الجميلة في مكانها للحظات تنظر باتجاه بيتهم… كانت بقامتها الهيفاء وهي تمسك بيد سلة الورد وبيدها الاخرى طارف تنورتها الوردية الطويلة وصدريتها البيضاء المطرزة بورود جميلة وشرائط من نفس لون التنورة وقبعتها الخوص على رأسها وكأنها إلهة الحب في الأساطير القديمة … ادارت الطرف حول منزلهم البسيط القديم المبني بحجارة الجبل ونوافذه الصغيرة التي هي من نفس جنس ولون بابهم الخارجي لكن ما كان يزيد هذا المنزل روعة هي أصص وشجيرات الورد المختلفة الالوان التي كانت تزين المساحة الترابية التي تحيط به من كافة جوانبه والاشجار العالية التي تظلل سقفه القرميدي الباهت اللون من القدم . كان بيتهم يقع عند سفح الجبل ويطل على ضفاف مجرى مائي ذو قاع صخري قليل العمق لكنه ينساب ويصب في انهار اكبر بعد مسافات طويلة من منطقتهم الى ان يصب في البحر ، غاص قلبها في صدرها عندما خطر ببالها بساطة حياتهم وتعب والدها الصياد الذي كان يعود عند المساء واحياناً بعد ايام طويلة يقضيها في البحر تعبا بحيث لا يفكر بما قد تكون ابنته قد عملت طوال غيابه عن الدار وهي باعتقادها لا تفعل اي شيء يسيء الى سمعة والدها سوى انها تحب هذا الشاب منذ الصغر ، اي اكثر من ثلاثة عشرَ عاماً ، عندما كانوا جيران وهي صبية صغيرة وهو صبي يكبرها بثلاث سنوات ، كانا معا طوال النهار يلعبان عند النهر القريب مع صبايا وصبية اخرين ولكنه كان ظلها الذي لا يفارقها ابداً ، وحتى يشاركها احياناً غسل دميتها التي كان والدها قد اهداها لها في احدى اعياد ميلادها وكانت دمية غالية الثمن ، كانا يحضّران برميل الماء معاً ويحممان الدمية وكأنها طفلتهما هي تغسلها وهو يسكب الماء على يديها ثم يأتي بالمنشفة لكي يلفها بها . لكن والده رغم كثرة اولاده كان اكثر شبابا وطاقة من والدها الذي تزوج من والدتها وهما في خريف العمر تقريبا ولم ينجبا الا هذه الفتاة ، وعليه تمكّن والده من مغادرة هذه القرية ونقل عائلته الى المدينة القريبة وبنى لهم منزلا ذو طابقين بعد عمله في التجارة بدلا من الصيد ، لكن والدها المتعب من قسوة الإبحار للصيد طوال سنين عديدة أفقدته الرغبة بتغيير عمله وكان جل فرحه هو ان يعود الى البيت ويمدد رجليه المتعبين وهو يدخن غليونه مستمتعاً بجمال ابنته الوحيدة وحنان زوجته الهادئة الصبورة وهما جالستان على الكنبة امامه ..
استدارت الفتاة الفاتنة ، وسارت الهوينا على طول النهر ، تقطف انواع الازهار البرية ، وتضعهم في سلة الخوص التي كانت تمسكها بيدها اليسرى مقربة اياها من قلبها وكأنها تريد ان تسمع الورود نبض قلبها حتى تنقله للحبيب عندما يأتي ويشم روائحها الزكية . سارت الى مسافة بعيدة عن بيتهم ، وهي تتلفت بين فترة واخرى ، تعجبت في كل مرة من خيبة املها لأنه لم يظهر بقامته الطويلة وقوامه الرجولي الذي كان مجرد النظر اليه يثير الشوق في كيانها كله لترمي نفسها في احضانه… قررت ان تعبر المجرى المائي حتى يمكنها ان تلمحه بشكل افضل ان بان من بعيد … خلعت حذائها وامسكته بيدها اليمنى مع ذيل تنورتها ، وسعت ان تحافظ على توازن جسمها الصغير اثناء سيرها على القاع الصخري لمجرى الماء حتى لا توقع سلة الورد من يدها …وصلت الى الضفة الاخرى بمشقة … جلست عند حافة صخرية للضفة ومددت رجليها الحافيتين في الماء مستندة على يديها اللتين امسكت بهما حافتا الصخرة بشدة بعد ان وضعت سلة الورد خلفها حتى لا تقع في الماء ولا تجد وقتا لجمع زهور اخرى له …. في الوهلة الاولى شعرت ببوردة الماء فرفعت قدميها بسرعة للحظة ثم اعادتهما للماء حتى تعودتا على برودته . كان القلق والخوف باديان على وجهها الجميل ، تسعى ان تركز وتجد مبررا مقنعا يهديء قلبها المضطرب ، أربعة أيام مرت ولا خبر منه ولا مرسال ولا تجرؤ ان تطلب الإذن من والدتها لتذهب الى المدينة القريبة وتسأل عن حاله .. ” ترى ماذا جرى له ، هل وقع له حادث ما ، مثلا انقلبت به عربته ومات ؟” مات ؟؟؟ نزلت دمعة على خدها ودعت ربها ان يبعد عنه كل مكروه ولكن ” ترى لماذا اهملها هكذا وبشكل مفاجيء ولم يفكر حتى ان يطمأن قلبها ؟”. شرعت تبكي بهدؤء ، ” هل ياترى وجد فتاة اخرى ونسي حبهما ام هي فعلت شيء ما أغضبته ، ام تعب من طول العلاقة وظروفه التي لا تسمح له ان يتزوجا ويعيشا معا الى الابد” … ظلت على هذا الحال اكثر من ساعتين وعندما لاحظت ان الشمس شرعت بالرحيل ، قامت من مكانها ، يائسة من كل شي في الحياة ، كأنها علمت أنها ستغادر الدنيا بعد لحظات دون ان تراه … عبرت النهر مرة اخرى لكن هذه المرة دون ان تشعر ببرودة الماء ولا الخوف من وقوع ورودها الجميلة التي انحنت هي الاخرى هامتها من كثرة الانتظار …
وصلت الى البيت حزينة مهمومة وأذرع أخطبوط اليأس يعصر روحها الرقيقة ، تجر اذيال ثوبها على الارض دون اهتمام ، كل شيء فقد اهميته بنظرها ، وحتى الحياة نفسها لم تعد تطاق . فتحت لها الام الباب وسألتها متعجبة من منظرها : ماذا حدث لك ؟ هل وقعت على الأرض الرطبة ؟ يابنتي كم مرة اقول لك أن الأرض أيام الربيع مرطوبة وانت لا تبالين انظري الى ذيل ثوبك كله ملطخ بالطين ؟ ” تأملتها الأم بسكوت لم يعجبها المنظر المضطرب لأبنتها المُغرَمة ، سألتها بغتة : هل تنازعت معه ؟ لم تجبها الفتاة انما جلست على الكنبة وشرعت بالبكاء . بدى الاهتمام الجدي على وجه الام توجهت نحو ابنتها وجلست جنبها وقالت وهي تحضنها ” حدثيني يابنتي ماذا جرى ؟ ”
اخبرتها أنه مختفي منذ اربعة أيام ولا تعرف ماذا جرى ، هل تركها ام وقع له حادث ما . شدت الأم بنتها الى صدرها بقوة ساعية ان تحيطها بحنانها أكثر ، وقالت تطمأنها ” لعله مشغول بشيء ما يابنتي ، الغايب حجته معاه ، ولماذا كل هذا اليأس وانت يسير في شراينك دم الشباب فاليأس للعاجزين ياابنتي الحبيبة ، وحتى لو فرضنا انه تركك ولو انا متأكدة انه لا يفعل ذلك لكن هناك الف من يتمناك ؟ ” ارتفع صوت نحيبها وقلبها الصغير يكاد ان يتفطر من شدة الألم والاضطراب … لم تشأ الأم ان تستهزء باحاسيس ابنتها كعادتها انما طلبت منها بهدوء وبرقة ان تقوم وتبدل ثيابها ولعله سيأتي غداً ..
في المساء تعجب الوالد ايضا من حال ابنته لكن الام سعت ان لا تشي بأي شيء عن وضعها النفسي القلق فتقلقه هو الآخر فطمأنته انها بخير يمكن برد بسيط .
في الصباح لم تشأ الأم ان توقظ ابنتها من النوم ، شعرت انها بحاجة الى الراحة ، اقفلت باب البيت وخرجت ،وعادت قرب الظهيرة وبيدها سلة المواد الغذائية التي اشترتها من سوق المدينة ، ورأت البنت قد قامت من النوم ولم تتناول فطورها كله و لا تزال بملابس النوم ، حضّرت لها الحمام والماء الحار وطلبت منها ان تستحم حتى يعود لها االنشاط والحيوية امتنعت البنت بالبداية لكن الأم اجبرتها على الاستحمام . في عصر ذلك اليوم ، تعجبت من إعادة امها لديكورالبيت ووضعها احلى شرشف على الطاولة واعدادها للشاي ووضعها أغلى الاكواب الجميلة التي في البوفيه الى جانب صحن البسكويت … ولم تسأل البنت لماذا كل ذلك فقد كانت لا تزال تسبح في عالمها الكئيب .. عند الرابعة طرق احدهم باب الدار ، ذهبت الام وفتحته وهي ترحب بالقادمين ” اهلا وسهلا بكم تفضلوا ” دخل الضيوف وعند رؤيتها لهم وثبت البنت من مكانها متعجبة لا تدري ماذا تقول فقد لجم لسانها من المفاجأة كان هو عند الباب متكأ على عكازتين واحدى رجليه في الجبس ترافقه والدته …. تلاقت الأعين فسرت حلاوة الحب في شرايينها كتعويذة سحرتها فعلت البسمة شفاهها المكتنزة الحمراء ورحل اليأس وغادر المكان الى الأبد ..
بقلم: نظيرة اسماعيل كريم
السليمانية / 28/5/2020

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع