تجلّيات اللغة في القصيدة السردية التعبيرية القاموسية/غافلة:للشاعرة عائشة أحمد بازامة

164

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

التعبيرية القاموسيّة

بقلم : كريم عبدالله ..بغداد – العراق . 1/7/2020 .

غافلة .. للشاعرة : عائشة أحمد بازامة / بنغازي – ليبيا .

 

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثرفهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعرالعربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذاالشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراءكثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدةالنثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنابدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهومهندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب منضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لهاحسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ مايُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّةالتعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السردالذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عنالأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصدالأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّدالأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ منالمدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ,اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء فيالذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هوجعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدةالسرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولاالتشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّماتسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة .أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفةترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدةالسرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضناالعربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانواأوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشاروأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدةالجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقياواميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتهاويحافظون على تطويرها .

سنتحدثتباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديدالأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليقبعيدا في سماوات السردية التعبيرية .

 

اللغة القاموسيّة:

اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيداوتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلهاوالاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هيالشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّهذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارهاناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذاتتسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة بهيحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدةمترهّلة ويضيف اليها ما يجعلها تتوهّج اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل ,يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغوايةيجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها مننهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهيبراءة من هذه التهمة . مادام الشاعر هو ابن الواقع والملتصق بثقافة بيئته , فمنخلال قاموس مفرداته نستطيع ان نقرأ الواقع الذي يعيش فيه الشاعر ونتمكن من معرفةطريقة تفكيره نتيجة ما يستخدمه من مفردات يطرّز بها نسيجه الشعري ليكون شاهداحقيقيا على العصر . مما لاشكّ فيه انّ مفردات الشاعر تعبّر عن مزاجه الخاص ورؤيتهلما يحدث حوله , فكلما كان مزاجه مستقرا وواقعه ينعم بالسلم والأمان جاءت مفردتهرقيقة عذبة أنيقة جميلة , لكن حينما يجد الشاعر نفسه محاطا بالخراب والخيبة ,ستكون مفرداته كئيبة خشنة تمتلأ بالقبح والمرارة , كون إلتصاقه بهذا الواقعوتفاعله معه , لأنه ابن هذه الأرض ومن رحم مجتمعه كان . انّ مفردات الشاعر حتماستصنع لنا المزاج العام للنصّ , فينقل مشاعره واحاسيسه الينا بصدق , معبّرا عن هذاالواقع المزري والمرير بمفردات تشبه هذا الواقع , سيكون النصّ ملتصقا بالشاعرومنتميا اليه والى واقعه .

نحن اليوم نتحدّث عن شاعرة تكتب الشعر بنكهةالياسمين ولوعة الوطن وشغف القلب الرقيق , الشاعرة : عائشة أحمد , من خلال قصيدتهاالمعنونة / غافلة / , نستطيع أن نقرأ قاموسها على شكل ثلاثة أساليب دلالية:

1-  القاموسيّة المفرداتيّة : لو تمعّنا جيداً في نسيج الشاعر الشعريفسنجده ممتلىء بمفردات تدلّ على الحزن والخراب والموت والألم والضياع , فمثلاًنقرأ المفردات التالية / غافلة / تضرج / دماً / نحور / الهائمة / جرفت / مناقيرالحقد / تاهت / الآهات / متنمّرة / عرجاء / دموعك / تحجّرت / عجوز / دموعك / هائج/ طغيان / مهاجرة / غضبة / برق / رعد / صامت / دكّ / نواح / أحترقت / شبّ الحريق /آهاتاً / الطرقات باكية / تشحذ / اللئام / تنوء / وزر / خطيئة / العفاريت /المسجونة / الموبوءة / السأم / النواح / النكوص / ذابلة / متعرّجة / تغتال / خدعتها/ صخور / جائع / رصاصة الرحمة . كلّ هذه المفردات استطاعت من خلالها الشاعرةأن ترسم لنا واقعاً مأساويّاً يبعث على الأسى والخوف والغربة والقحط والموت ,أنّها صور للواقع الذي تعيشه الشاعرة , الواقع المتشظّي الذي ترك بصماته واضحة فيروح الشاعرة , فرسمت لنا هذه الصور المعتمة من الحياة البائسة .

2-  القاموسيّة المكانية : بالعودة الى نسيج الشاعرة الشعري فسنجدالمدينة / أويا / حاضرة وشامخة رغم ما حلّ بها , كما في المقطع النصّيالرائع / حمامة بكف الزمان تضرجعشها دماً سفحت شواطيء لهفتك على نحور حفرياتك الهائمة أويا* جرفت وكرك المعشوشبمناقير الحقد القديم / , هذهالمدينة القديمة / طرابلس / صاحبة التاريخ المجيد والحضور المشع في الزمن ,  وكذلك نجد / ومقبرة سيدي منيدر / التي يعود إليها ذكر النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم , هيالاخرى لها تاريخها العظيم والمشرق , وكذلك نجد / على تخوم جردينة / هي الأخرى لها تاريخ روحيّ عظيم .

3-   القاموسيّة التاريخية : من خلال ذكر الأماكن والاشخاص والأسطورة , فمن خلال النسيج الشعريللشاعرة نستشعر بعبق التاريخ والحضارة التي كانت , والجمال الروحي والنفسيوالمكاني والزماني الذي كان , كل هذا نجده ونتلمّسه ونتنفّسه داخل نسيجها الشعريالذي جاء مترابطاً ومحكماً وعلى شكل بناء جملي متواصل فذّ .

كلّ هذا الجمال سرعان ما يتداعى وينهار على واقعمؤلم ترك بصماته في روح الشاعرة كما في هذا المقطع الذي تختتم به الشاعرة قصيدتهاهذه / تحنولغفوة اللقمة الشهية لفم طفل جائع على رصيف التاريخ يرتجي صدر امه الحنون المغتالةبرصاص الرحمة على سفوح اعشاش الحمام / . هكذا ينهار كلّ شيءوينتهي الى الخراب والدمار والجوع والموت , ويبقى صوت الشاعرة عالياً في كشفالحقيقة وتعرية هذا الواقع , فهي صوت الأمة الذي لن يسكت . لقد أضافت الشاعرة الىالسرديّة التعبيرية اضافة جميلة ورائعة تستحق عليها التقدير والاحترام .

النصّ :

غافلة

حمامة بكف الزمان تضرج عشها دماً سفحت شواطيء لهفتك على نحورحفرياتك الهائمة أويا* جرفت وكرك المعشوشب مناقير الحقد القديم تاهت الآهات متنمرةتقود سفينة عرجاء نحو تلكم الشواطيء غارت دموعك حدقات الكون تحجرت كوجه عجوز نحتوهعلى جدارك السميك موج هائج يرتشف رجفة طغيان حمائم مهاجرة غضبة برق رعده صامت دكحصن السلام نواح الملائك غاص اسماع حدائق الزيتون احترقت فيافي الكلم شب الحريقآهاتًا انطوت الطرقات باكية تشحذ خبز موائد اللئام تنوء بوزر خطيئة مدينة العفاريتالمسجونة تخوماً الموبوءة إذلالاً الغافيةحضناً تاريخها مغادر لحافها السأم تقتات صوت النواح تنام طويلاً تتبرج النكوصبراياتها ذابلة الجبين متعرجة الوجه تغتال بسمة طفلة خدعتها تفاحة حواء معابد زيوس* ومقبرة سيدي منيدر * على تخوم جردينة* الغابرة على صخور الوجدان عتيقة البهاءشفيفة التيه تحنو لغفوة اللقمة الشهية لفم طفل جائع على رصيف التاريخ يرتجي صدرامه الحنون المغتالة برصاص الرحمة على سفوح اعشاش الحمام .

 

عائشة أحمد بازامة / بنغازي
______________________
* أويا الاسم القديم لطرابلس .
* زيوسإسم آلهة إغريقية .
*سيديمنيدر مقبرة في طرابلس  .

*جردينةقرية جنوب بنغازي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع