الوطن بين الاغتراب الداخلي والمنفى

200
كفاح محمود/
———————————-
بين أن يكون الإنسان مهاجراً أو مغترباً خارج وطنه ومنفياً أو مغترباً داخله، كثير من المواقف والتعريفات ولعلّه من المفيد أن نأتي الاغتراب في الثقافة والفكر أسباباً ونتائجاً للوصول إلى حالة المغترب، داخلياً أو خارجياً، وحين ذاك سنطلّ من زاوية الارتباط بالوطن والحنين إليه، ومن نافذة الخارج المطلّة على حافات الوطن، أو النفوذ إلى أعماق ذلك المغترب في داخله، وهو يفتح نافذة إلى الخارج فكراً وثقافةً، ربما لولوج نمط من الحرية وهروباً في أحيان كثيرة من ملابسات الرقيب والسلطة والإقصاء علّه يجد عالماً مغايراً يوفر مساحةً أوسع للذات أو الرؤيا. الوطن
إنّ فكرة الاغتراب (Alienation) فكرة قديمة، تناولها الكتّاب والفلاسفة منذ القدم إلى عصرنا هذا من زاويتين: إحداهما الاغتراب عن المكان، سواء كان ذلك الاغتراب عن الوطن اختيارياً أو قسرياً، ووقفوا على ما يصاحبه من أمور تمسُّ النفس الإنسانيّة وعلاقتها بطبيعة الحكم والنظام السياسي في الوطن الأم من جهة، وبينها وبين النظام الاجتماعي وما تصبو إليه من علاقات مغايرة، ومن زاويةٍ أخرى التفتوا إلى ذلك الإحساس بالاغتراب الذي ينشأ بين الأهل وعلى أرض الوطن لأسبابٍ اجتماعيةٍ أو سياسية قسرية تقوم بها الدولة.
في الإبعاد أو النفي أو الترحيل وما يترتب على ذلك من هجرة داخلية وتغييرات مهمة في جوهر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولعلّ أكثر حالات الاغتراب الداخلي شيوعاً تلك التي تنتشر في أوساط المثقفين عموماً، والأدباء والمفكرين والإعلاميين والفنانين بشكلٍّ خاص، تحت هيمنة أنظمة سياسية أو اجتماعية مستبدّة وظالمة تعمل على تسطيح أو غسل أدمغة الجميع على خلفيّة أدلجة الفكر والرأي في كل وسائل الاتصال وأصنافها، وعلى مختلف المستويات السياسية والإعلامية والتربوية، أو من خلال عمليات الإبعاد والترحيل القسري والنفي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، في بلاد تعجّ بالمكوّنات العرقية والدينية والمذهبية.
كما حصل مع مئات السياسيين أو المثقفين على حدّ سواء، أثناء نفيهم وإبعادهم إلى مناطق مختلفة تماماً عن مناطقهم في اللغة والثقافة والتقاليد، أو ربما كان الاغتراب من خلال البحث والاندفاع وراء تجارب عالمية في غرب الأرض وشرقها، في حقول الأدب والفن والموسيقى، حتى عجّت ساحتنا الثقافية والاجتماعية بأنماط وموديلات غربية وأمريكيّة تخّطت في كثير من الأوقات محاورها الأدبية والفنية إلى حيث الشكل والسلوك والممارسة، ويقينا أنّ الاغتراب الذي تسببه السلطات القمعية في بلداننا عموماً في الشرق الأوسط أو العالم الثالث، من خلال أدلجة كلّ مناحي الحياة قسرياً.
حيث تنفرد الأنظمة السياسية الشمولية في تجربتها المتميزة مع الرأي الآخر عموماً، والمفكرين والمثقفين بشكل خاص، وفي مقدّمتهم الكتاب والفنانين والصحفيين، سواء ممن يعارضونهم أو حتى الذين يستخدمون ترددات تلك الأنظمة في إرسال إنتاجهم، وربما هنا يسأل البعض: حتى هؤلاء، نعم، هؤلاء ربما يكونوا أكثر مأساة في صراعاتهم مع أنفسهم ومع النظام السياسي، فهم بالتالي أناس غير الآخرين في مشاعرهم، ولكنهم ربما لا يملكون قضية معينة أو لا يتبنّون موقفاً سياسياً أو فكرياً بحدّ ذاته إلى الحدّ الذي يجعل منهم موظفين حكوميين ليس إلا.
وتتحوّل مواهبهم وطاقاتهم الفنية والفكرية إلى سلعة للمقايضة أو ربما للاستلاب والمصادرة، كما حصل في غسل أدمغة ومواهب العشرات أو المئات منهم طيلة عقود الدكتاتورية المقيتة، في كافة حقول الإبداع ولمراحل مهمة من تاريخ كثير من أدبائنا وفنانينا العاملين في مجالات الفن الغنائي والموسيقي أو المسرحي والتشكيلي، حيث تزدحم الساحة بأسماء العشرات منهم، وفيهم الكبار ممن رفدوا الثقافة العراقية وحقولها الأدبية والفنية والعلمية.
إذن، نحن أمام صنفين مهمين من حالات الاغتراب؛ وهما: الاغتراب الداخلي الواقع تحت هيمنة السلطة وما ينتج عن ذلك من تشوهات كبيرة في الأداء الثقافي ونوعيته، ومن ثم نشوء شكل آخر من أشكال الأعمال الثقافية، التي تخدم النظام السياسي بحدّ ذاته ولا علاقة لها بقضايا الشعب الأساسية، كما حصل خلال عقود من النظام الشمولي فيما يتعلّق بالنتاجات الأدبية والفنية والفكرية والإعلامية، ونوع آخر ذاتي يندرج تحت توصيفات الانكفاء في زوايا تجارب خارجية ومحاولة تحقيق الذات من خلالها، ويعمل المغترب في هذا النوع من أجل تسلّق تجارب بعيدة ربما لا تمّت بأية صلة بواقع ثقافته، مما ينتج هو الآخر أنماطاً ثقافية لا تلقى مساحة واسعة لانتشارها وربما تعاني هي الأخرى من غربة.
ويأتي الذين اختاروا المنافي قسراً في طليعة من أسسوا نهجاً مميزاً في الثقافة الوطنية المغمسة بتجارب الآخرين، من خلال التداخل الميداني بين نتاج المغترب وبين حضارات الدول والشعوب التي اغترب فيها، مُضافاً إليها ذلك الكم الهائل من مشاعر الاغتراب ومقاومة الانصهار والذوبان المفعمة بالوعي الوطني لقضية بلده، ويبدو ذلك واضحاً في أعمال معظم المغتربين ونتاجاتهم الفكرية والفنية والأدبية، التي تعكس تلك الرؤيا الشديدة التركيز على مشاهد الوطن وقضاياه.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع