المحلية في الرواية المغاربية

47

المحلية في الرواية المغاربية

حميد المصباحي

قد تتحول إلى كتابات أدبية رائعة وحتما ستكون لها كلمتها مستقبلا؟ هل يمكن أن ننفي أننا نتكلم عن الأدب المغاربي متناسين عمدا عمقنا القاري؟ أ ليست هذه الميولات القاتلة محبطة لما يمكن أن، يشكل ميزة قارية لنا نحن المغاربة بحيث نستفيد من الكتابات الإفريقية سواء الشفوية منها أو الكتابية، فإذا كنا نرغب في التميز عن المشرق العربي، دون الإحساس بفقدان الهوية، أ و التفاخر بهوية الغير، تقليدا أو امتزاجا به، وتفاخرا بالتلاقح المزعوم، فإن الرواية، المغربية، طموحا وغاية، لا تتحقق إلا باكتساب الميزات الأساسية، بالتحرر من التنميط الغربي الذي سحرنا، وشدنا بعمق إلى قضاياه، التي تبدو متقدمة بتقدم واقعه المعاش، بحيث كفرت الرواية الغربية بالمكان، ولم يعد الواقع يتسع لها، وهنا تكمن فلسفة خفية ،هي المحرك لهذه الرؤية، التي لم ينتبه لها كتابنا، وروائيونا، فالأمكنة في نظر الفلسفة الأوروبية، تحايل بالواقعي، على المتخيل، وقد فرضت درجة تحررهم من سلطة اللغة، خلق عوالم جديدة، لا تعتمد الملموسية، سواء كانت أمكنة أو حتى شخوصا، فالفرد، ليس إلا اسما، يتماهى به السارد ليحكي عن عوالم يتظاهر هو نفسه بعدم فهمها، ساخرا من انتظارات القارئ.
وهنا علينا اكتشاف أن الرواية الغربية في صيغتها الجديدة، تروم خلق قارئ جديد، يساير رهاناتها، على اللغة، كمحاولة للانتصار على الشعر، وجر الفلسفة لمعتركات الوجود العميقة في الوجدان الأوروبي، المنبهر بالخفي والمتعالي عن العقلي والملموس معا، هي كفن تساير مجمل الاختراقات التي يحققها الفكر الأوروبي، الذي فكر عمقيا في العالم والوجود، محاولا إعادة فهم العالم، بتحولات الفكر، فيه والفن معا، مما فرض على القول السردي في تجربته تنويع سياقاته، بتكسير الأمكنة، والسخرية من منطق الأحداث، كما سخر فلاسفته من منطق التاريخ، بإعادة الاعتبار للغريب فيه، حتى لوكان أسطوريا أو خرافيا، فتولدت الرغبة، في إعادة البحث في المقدسات وتيمات القبول والإطلاقيه، حتى في الشخوص، فلم يعد البطل، هو المنتصر أو المنهزم، بل الكاتب نفسه، الذي غدا ظلا للبطل وتابعا له، وامتدت اللعبة بمتعتها، إلى تحويل الأبطال إلى كائنات دنيا، كالحشرات والأشياء، لكن الوعي السحري بالمفارق، سرعان ما عاد إلى عالم آخر، هو تيمة الكتابة نفسها، لتصير الرواية موضوع بحث وتنقيب عن هويتها وضياعها، كسير ذاتية مفقودة، أو سير للغير، المتفوق، والغازي، لسبر بقايا تاريخه على أرض العرب، بمدنهم الدولية، الشهيرة باختلافاتها الجميلة، لأنها احتضنت العظام، وتشبهت بهم، ليغرفوا من كرم تاريخها المجيد، وهنا أزعم، أن رواياتنا، تغرف من الأسماء التاريخية، الخاصة بنا، لتلعب على وتر التاريخ العقلاني والتاريخي لبعض الشخصيات التي تحسب لنا، تنويريا، كالعلامة ابن خلدون، أو الأندلسي الفار من الاضطهاد الغربي، وهي لعبة روائية ممتعة خاضت فيها التجربة الغربية، بسياقات مختلفة، لتنقب في التراث المسيحي عن المقهورين، الذين شوهتهم الكنيسة، أو حتى ضحايا الحداثة، الذين رفضهم الغرب، وكان عليه الاعتراف بالكل، لتعرف الأجيال القادمة تاريخها مكتملا، بنوره وحتى ظلامه، فالحقيقة كما قال هايدجر، ليست معزولة عن اللا حقيقي، إنها ملازمة له، فيه الوجود الإنساني منفعلا معها وبها في الوقت نفسه.
إن الغريب في الرواية المغربية، أنها سريعة الانفعال، بما يوجد خارج قارتنا، وقد نوعت الاحتفاء، فظهرت تجارب أخرى، لا تحين التاريخي، لتقول به عن الواقع ما ينبغي قوله ثقافيا، فاهتدت مرة أخرى إلى شخوص خارج تاريخنا الأصلي، لتستدعي شخصيات غربية، تقتبس بنورها نورا، بحثا عن تاريخ جميل، بعبوره لوجودنا، فنحاول مشاركته تاريخه، للتخفيف من شدة الاختلاف والرغبة في التماهي معه، بحثا عن المفتقد فينا، أو خوفا من آثاره، التي تبدو طلاسم صعب حل رموزها، بينما انصهر النقد فيها، ولم يجفل من تقليديتها للغربي، لأنه هو نفسه، لا يمتلك إلا الأدوات الإجرائية، التي كانت حصيلة قراءات أروبا لآدابها الروائي، وتمايزاته، التي كانت لها مرتكزات فلسفية، وتاريخية خاصة بسياقاتها المعرفية وفنية تعاملها مع تلقيها الجمالي للكتابات الروائية، التي ينبغي أن تكون استجابة لحاجات روحية، لا تلغي تبادل الخبرات الفنية من أجل التجاوز والإضافة، لا عبادة النموذج حد القرف، وتكراره إلى مالا نهاية، حد الإنهاك، فالحقيقة نفسها عندما تقال باللغة نفسها تفقد بريقها، وتبدو أقرب إلى الوهم، أما فن القول، فإنه هو نفسه لا يكون فنيا إلا بالمغامرة، ومحاولة اكتشاف العالم من كل الجهات، شمالا وجنوبا.
فقد أنطق الروائيون الصحاري والبحار، ودفعوها لقول الشعر روائيا، باستحضار الشفاهي في التراث الأفريقي، واستحضروا السحري، بلغة الوثنيات الأفريقية، فكانت تلك روعة، حتمت إعادة التفكير في المكان بمقولات غير أوروبية، كما أن تركيبة الشخص الأسطوري، جعلت التناقض فيه منطقا له غرائبيته، المنافية لمنطق العقل الإجرائي، الذي سيطر على البناء الروائي، فنيا ونقديا.
هل كل هذا ينفي ضرورة التفاعل بين الثقافات وآدابها، بدافع البحث والتأصيل لما هو إنساني مشترك؟؟
حتما ذلك غير ممكن، شريطة ألا يكون كالموضى، فيتم تكرار الناجح لتقاسم نجاحه، أو إرضائه ليلقي نظرة على ما نكتب بترجمته أو قراءته من طرف المستشرقين الباحثين في المتون العربية، لأجل فهم عقلية أهل هذه الحضارة، خصوصا وأن الأنتروبولوجيا، تستند للغة الحضارات قديمها وحتى جديدها، المستند لتراثه أو حتى الرافض له.
إن الثقافة إنتاج خاص، وبهذه الخصوصية يفرض نفسه، فلا أحد يقرأه إلا في سياقها حتى إن كان غربيا، يمكن الاستعانة بتقنيات تعبيره بدون أن نرهنها لنقده، فنعد له نماذج تطبيقية، يجرب فيها إجراءاته النقدية التي اعتمدها حتى النقد العربي نفسه ونشطها ترجمة وتحليلا على متونه الأدبية، وإن عدل بعض مكوناتها وكيفها مع الرواية العربية كما تشهد بذلك الساحة الأدبية النقدية، خصوصا المغاربية منها.
.حميد المصباحي كاتب روائي.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات