المحطة رقم 10 الفرزة الثانية عشرة
الحاج عطا الحاج يوسف منصور
أخذتُ بتوجيه غانم حمدون ومشيتُ وراء ذي الشعر الأسود حتى دخل القطار فدخلتُ وراءه وجلستُ على الكرسي المقابل له وفي طريقنا وجّهتُ له سؤالًا هل انت عراقي فأجابني بالإيجاب فزادني جوابُهُ ارتياحًا فعرّفتُ له باسمي وعرفني باسمه فقال اسمي أحمد الهبش ودار الكلام بيننا ثم طلب جوازي ليتأكد من قولي وقد تبين لي من خلال حديثنا أنّهُ صديق لابنيّ خالتي هما الحاج نصرت والحاج علي الناصر فقلتُ في نفسي هذا من حسن حظي وعند وصولنا لمحطة برلين الرئيسية توجّهنا لتأجير تكسي ولا أدري سبب تأجير التكسي وكل وسائل النقل متوفرة وسريعة مثل القطار الأرضي / المترو/ فهو واسطةٌ سريعةٌ ومهما كان فسعر بطاقته أرخص وبفارق كبير لو قارنتُها بالتكسي وكان عليَّ أن أسأله سبب تأجير تكسي ووسائط النقل سريعة وأرخص موجودة لكني بقيتُ على حُسن الظن مع ترددي من أن يخدش سؤالي مشاعره وكان الصحيح هو أن أسألهُ لكني مشيتُ معه ولا أدري الوجهة الى أين وإذا بشخص يعترضني أثناء السير ويأخذني بحضنه وبعد ما تبينتُ ملامحه اذا به الشيخ صبيح وإنّي أعرفه مُذ كان ابوه مجيد مستأجرًا لدكانٍ منّا في بداية الخمسينات.
لقد دخل الشيخ صبيح الحوزة في النجف في منتصف الستينات وكنتُ أراه لابسًا العِمّةَ البيضاء مُجتازًا الساحة الحُسينيةِ الى دارهم وحين رأيتُهُ في برلين كان مختلفًا عليَّ في
لبسه وشكله لطول الفترة الزمنية وتغير الاحوال.
دار بيننا كلام سريع ودعاني للذهاب معه والمبيت عنده فاعتذرتُ له لالتزامي مع أحمد الهبش وهو التزام لا موجب له وفي حالة تحللي منه لا انتقاص ولا عيب فيه ولكني كما يقولون/ الرجل عند كلمته/فاعتذرتُ للشيخ وواعدتُهُ أن أزوره في اليوم التالي فأعطاني عنوانه ثم افترقنا.
أخذتُ وأحمد التكسي لا أعرف وجهته ظنًّا مني أن المكان قريبٌ وبحدود نصف ساعة بالتكسي وصلنا المكان وكانت الأجرة باهظةً دفعتُها وأنا نادمٌ على ضياع الفرصة التي قدمها لي الشيخ صبيح.
دخلنا الى شقة أرضية متواضعة وتكلم احمد الهبش مع صاحبتها وهي امرأة بحدود الستين من العمر فأدخلتنا الغرفة التي حددتها لنومي وكانت متواضعةً فالسرير اذا أقارنه بكراسي المترو لكانت كراسيه أفضل من سريرها الا اني تقبلتُ الموضوع على انها ليلةٌ ثم اغادرها وتوقعتُ بأن ايجارها والغرفة بهذا المستوى سيكون بسيطًا.
بقي أحمد الهبش يتكلم معها بحدود نصف ساعة وصوتُهُ وكلامهُ يعلو تارةً ويعود وكل شيء كنتُ أغلفه بحُسن الظن فاعتبرتُ كلامه معها بأنّهُ يُساومها على تخفيض الايجار وهو لصالحي وبعد ذلك قام ليخرج وكان عليَّ أن أسأله عن سعر مبيتي لهذه اللية الّا أنّ محور الثقة الذي بنيتُ عليه حال بيني وسؤاله فكيف أسالُهُ وهو العراقي الصديق لابنيّ خالتي وسؤالي فيه إحراج وتشكيك بالثقة.
نِمتُ ليلتي على سرير خشبي وفراش لا يصلح الا لرميه في الحاويات وبعد أن تجهزتُ للخروج صباحًا طالبتني صاحبة الشقة بـ 20 مارك وهو أكثر من عشرة باوندات من غير إجرة التكسي التي كانت 6 ماركات ومع كل هذه المصاريف أنّي خرجتُ منها بلا فطور نادمًا على التزامي الفارغ أقول خرجتُ عائدًا الى المحطة لكي آخذ حقيبتي التي اودعتها عند محل الامانات ومنها ركبتُ المترو الى شقة الشيخ صبيح على ضوء العنوان وقد وصلتُ والحمد لله.
التقيتُ بالشيخ صبيح في غرفته الواسعة ومعه وجدتُ ابن مدينتنا حامد طالب السبع وآخر فلسطيني اسمه محمد.
كانت الغرفة واسعة وفيها ثلاثة أسرّة / سرير كبير يسع لشخصين مخصص الى شيخ صبيح وحامد/وسرير لمحمد والسرير الثالث لي وكانت الاسرّة وفراشها بمستوى جيد.
وكان مسؤول البنسيون والمشرف عليه مصري وعمرهُ فوق الثلاثين.
وقبل أن يذهب اليه الشيخ صبيح أخبرني بأنه قومي ناصري فقلتُ له العرب مرضى بالسياسة أينما يذهبون يحملون معهم هذا المرض.
ذهب شيخ صبيح للمسؤول واتفقتُ معه ودفعتُ له 100 مارك عن إيجار شهر مقدّمًا.
وبعد أن وضعتُ الخطوة الأولى على الطريق بقي عليَّ أن اضع الخطوة الأخرى وهو العثور على العمل وما هو العمل لمثلي الذي لا يعرف شيءً لا لغة ولا يُجيدُ حِرفةً أو مهنةً كي يتمكن من ضمان موردِ عيشه واستمراره وديمومة البقاء في برلين.
ومن باب ما خاب مَنْ استشار سألتُ الشيخ صبيح وحامد عن رأيهما بأخذي الرسالةَ التي كتبها المهندس الجيكي/ بافل/ الى الألمانية برجيت باثك/ كما اخبرتهما بأنّها كانت متزوجةً بمغربي وأنجبت منه طفلًا ثم تركها فكان جوابهما لا تصل لها أبدًا وحتمًا أنّها حاقدة على كل عربي فرأيت في جوابهما ما أقنعني.
ثم طلبتُ أن يساعداني في الحصول على عمل فاعتذرا ولا أعرف ما كان يعملان ثم سألتُ محمد الفلسطيني بعدهما فاعتذر أيضًا ولهم الحق لأن العمل لأمثالنا الداخلين قجق الى برلين الغربية ليس أمامنا إلّا غسل المواعين في المطاعم او تنظيف الحَمّامات أو أعمال بناء ويبقى للحظ دوره في العثور عليه.
أخذتُ أتردد على نادي الطلبة يُسمّى المنسا وقد عرّفني عليه الشيخ صبيح لأن فيه توجد أرخص وجبات الطعام لسعرها المناسب لذا أكثر مرتاديه هم الأجانب والعرب ومنهم عراقيون وفي أحد الايام حضر صاحبي ذو الشعر الأسود أحمد الهبش فرحبّتُ به ودار بيننا حديث ومن خلاله طرحتُ عليه ما إذا كان بإمكانه مساعدتي بعنوان مكتب عمل لم يجبني فكررتُ عليه طلبي فأعطاني عنوانَ مكتبٍ وقال لي: إنّ الذي يعمل فيه هو عراقي وصاحب المكتب شخص الماني والعلاقة بينهما مبنية على الجنس وقال أيضًا عليك ان تصل اول الصباح وإذا التقيتَ به فقل له أنّك من قبلي.
استبشرتُ خيرًا وقلتُ في نفسي هذه ابتسامة الحظ وان القادم أحسن وبعدها خرج أحمد الهبش وخرجتُ من بعده متوجّهًا لمسكني سيرًا على قدميَّ للتوفير وللصحة.
نمتُ ليلتي وأنا أحلم بإشراقة الصباح وقد استيقظتُ في الخامسة وبعد تناولي وجبتي من الفطور ركبتُ المترو متوجهًا الى مكتب العمل وبعد مسير زُهاء نصف ساعة أو أكثر وصلتُ الى ذلك المكتب قبل السابعة قرعتُ الجرس لم أتلقَّ جوابًا فسألتُ شخصًا له ملامح عربي من شعره الاسود كان واقفًا بعيدًا عن المكتب في رُكنِ البناية فأخبرني بأن المكتب يفتح الباب في السابعة ثم وتبين لي أنّه طالبُ عملٍ مثلي بعد ذلك انسحبتُ قريبًا من الباب وبعدها بقليل جاء رجل ألماني بزي مدني وسألني عن الوقت الذي يفتح به المكتب فأجبتَهُ في السابعة ثم انصرف ودخل الى بابٍ بقرب باب المكتب فلم أعِرْ لذلك هتمامًا وبقيتُ حتى صارتُ السابعة فجاء الامل الموعود بإطلالة العراقي العامل في المكتب وبعد أن جهز نفسه لاستقبال طالب العمل كنتُ أوّلَ الستّة في الدخول عليه في مكتبه أما الباقون فهم في الصالة ينتظرون دورهم.
وبينما أنا أتكلم معه وإذا بذلك الرجل المدني يدخل الى الصالة ومعه عدد من أفراد الشرطة وما أن رآهم حتي اصفر وطلب مني الخروج فاستفسرتُ منه والشرطة تنتظر فقال لي بصوت خافتْ ومنفعل/ اطلع ليأخذوني ويّاكم / فخرجتُ فأخذتنا الشرطة وقبل أن نخرج من المكتب سألني ذلك الرجل الألماني وقد تبين لي أنّه من الشرطة بعد فوات الأوان سألني أين جواز سفرك؟ فقلتُ له عند القنصل العراقي فسكتَ ثم استدرنا للخروج وكانت كبسةً حلوةً تبخرت فيها احلامي الواعدة التي كانت تُداعبني ليلًا.
وعند خروجنا كنتُ أتوقع سنذهب في سيارة الى مكان للشرطة بعيدًا عن المكتب ولكن ظهر لي ان الباب التي دخل فيها الرجل الألماني سألني هو مركزٌ للشرطةِ.
دخلنا الصالة ومنها الى حُجرةٍ مظلمةٍ أتوقعها كانت زنزانةً أيام هتلر بقينا فيها ننتظر التحقيق ثم نادونا واحدًا واحدًا وجاء دوري فجلستُ على كرسي ومعي شرطي جالس على كرسي وأمامه منضدة عليها أوراق وقد سألني عن جواز سفري فأخرجتُهُ له ثم أراد أن يكتب وتوقف فالتفتُ الى خلفي فرأيتُ الرجل نفسه واقفًا خلفي فانحنى لي بكل احترام على إخراج الجواز وبقي المحقق لا يكتب حتى غادر المكان فعرفتُ أن هذا الرجل ذو رتبة عسكرية كبيرة.
سألني المحقق عن سبب دخولي ومن أين دخلتُ ولماذا أطلبُ العمل فأجبتُهُ وكان جوابي قصة اختلقتُها ولا أساس لها عن أسباب العمل كان مضمونها أني كنتُ في أحد البارات في حالة سكر لا أدري هل سقطت مني أو أنها سُرقتْ وعليه لا بُد لي من وجود عمل فكتب المحقق ما قُلتُهُ له وسألني كيف بقي عندي الجواز فكان جوابي أنّي تركتُهُ في مسكني وبهذا السؤال ختم المحقق التحقيق.
واعادونا نحن الستة الى الزنزانة ثم بعد وقت قصير أعطونا قصاصة ورق فيها عنوان الدائرة التي نراجعها وتأريخ المراجعة.
خرجتُ من مركز الشرطة كما يقولُ مثلنا الشعبي/لا حظتْ برجيلهه ولا خذتْ سيد علي أو كالمَثَل العربي/ ذهبتْ النعّامةُ لطلب قرنين فعادتْ بلا أذنين.
وبعد يومين على الحادثة وكعادتي اثناء جلوسي في نادي الطلبة / المنسا / أطلّ بوجهه أحمد الهبش من الباب وجلس وكُنّا ثلاثة عراقيين فصار رابعنا.
فبادرني بالسؤال وهو يتوقع حصولي على العمل فقصصتُ عليه ما جرى وما آلتْ اليه نتيجتي وقد عاتبتُهُ على عدم تنبيهي بوجود مركز الشرطة والذي يعرفهُ بجانب المكتب وبعد عتابي له بقليل خرج ولم أرهُ الى اليوم.
بقيتُ أترددُ على المنسا وكان يجلس معي بعض العراقيين لهم ميول شيوعيه أو أنهم في تنظيم الحزب الشيوعي العراقي لا اعرف حقيقتهم يجلسون معي يتكلمون عن مخطط جاهز لقلب نظام البعث والحزب قد وضع البروفة الأخيرة وعن قريب يحصل التغيير.
ويدور النقاش بين الجالسين وأنا أستمع الى أن يضيق صدري من هذا الكذب والخُداع فأشرعُ بالنقاش وأكشف حقيقة وزيف الحزب الشيوعي فينفضّوا وأبقى وحدي.
تكررتْ هذه المناقشات عدّة مراتْ الى أن تفاجأتُ بحضور مدرسي في اللغة العربية عندما كنتُ في المتوسطة الرسمية والشيوعي الموقوف معي عام 1963 هو شوقي الصوري اخو المحامي محمد علي الصوري فكانت سعادتي به كبيرةً.
دار الحديث بيني وبينه وشرحتُ له موضوعي وبعد الحديث أخبرني بأنّه مكلفٌ من قبل الحزب اني أحذركَ بأنّ نقاشك وكلامك سيُعرّضك الى مخاطر وقد ناقشتُهُ في موضوع البروفة الأخيرة والانقلاب فقال لي اسمع حجي وإنّ المصلحة تقتضي المجاراة وهذا عنواني في المانيا الشرقية اذا ترغب بزيارتي ثم انصرف.
بعد الذي جرى في مركز الشرطة وسحب جوازي قررتُ التفتيش بنفسي عن مكاتب العمل وفي مساء أحد الأيام دخلتُ فرعًا من الفروع في منطقةٍ كنتُ أجتازها للوصول الى مسكني فوجدتُ مكتبًا وفي بابه شخص ذو شعر اسود نحيف الجسم فسألتُهُ هل أنت عربي فقال لي نعم وسألتُهُ عن المكتب فعرفتُ من لهجته أنّه عراقي وسألتُهُ عن سبب وقوفه بباب المكتب فقال:أنّه جاء ليحصل على عمل وقد رفضتهُ صاحبةُ المكتب لكونه ضعيف البُنية ونحيف لا يتناسب مع عمل البناء فسحبتُهُ ودخلنا وكانت صاحبة المكتب شابّةً جميلةً فقلتُ لها هذا صديقي فإذا امكنكِ مساعدتنا في العمل سويةً فأعطتنا عنوان ومكان العمل لنعملَ به سويّةً ثم خرجنا.
عملنا سويةً اسبوعين متتاليين في عمارة شاهقة من عدّة أدوار وتحدد عملنا في تنظيف المدافئ التي توضع في الغُرف حيث نُزيلُ عنها مواد البناء العالقة بفرشاة حديدية وفي الأسبوع الثاني وكان يوم الجمعة وهو نهاية الأسبوع زارنا مسؤول العمل فرآني أعمل بتنظيف المدافئ خلاف ما هو متعارف عليه وهو طرح المدفأة على الأرض وجليها من المواد العالقة في حين كنتُ أجليها بعد رفعها عن الأرض فسألني لماذا لا تطرحها؟؟ فقلتُ له إن طرحها على الأرض يؤلم ظهري فقال لي اذهب الى البيت إذا كنتَ لا تقدر فجاء جوابه مؤلمًا أثارني وكُدتُ أضربه بالفرشاة لكن تماسكتُ وكظمتُ غضبي وعُدّتُ أنظف المدفأة على طريقتي دون جواب وبقي ينظر الى عملي بعض الوقت وانصرف.
*******
الدنمارك/ كوبنهاجن الجمعة في 10 اذار 2023 الحاج عطا الحاج يوسف منصور