الكتابة في درجة الصفر

1٬162

شدري معمر علي/

عندما تقرأ هذا العنوان و إذا كنت من المهتمين بعوالم الكتابة والإبداع سيذهب
تفكيرك إلى عنوان كتاب مشهور ” الكتابة في درجة الصفر ” للكاتب الفرنسي “
رولان بارت ” .
وهذا الكتاب حسب المختصين يتناول القضايا الرئيسية في مفهوم الكتابة والنص،
ويعد جواباً على سؤال طرحه سارتر قبله في كتابه “ما هو الأدب؟” واتخذ مكانته
بين كلاسيكيات النقد الحديث بحيث أصبحت عبارة “الكتابة في درجة الصفر” إحدى
المفاهيم المعيارية التي فرضت حضورها في المصطلحات النقديةوالأدبية المعاصرة
وقد بين د أحمد راشد إبراهيم الأسباب الداعية لتفسير هذا المصطلح فذكر منها ما
يلي:
الأوَّلُ: العلاقة الوطيدة بين الفلسفةِ الَّتي تجمع بين رولان بارت وأستاذه
سارتر، فأولهما تتلمذ على فلسفة أستاذه الوجودية، وهذا يعني التَّكاملَ
والتَّرابط الفكريَّ بين الاثنين.
الثَّاني: أنَّ محتويات الكتابة في درجة الصِّفر تكادُ تطابق ما أراده سارتر
في سؤاله عن الأدب.
الثَّالثُ: أنَّ المِعيارَ الأمثلَ والنَّموذج الحقيقي الَّذي يجعله رولان
بارت خير ممثل للكتابة الصفرية هو كتابة ألبير كامي الأدبية، وقد أشرنا آنفًا
إلى كامي، وأنَّه فيلسوف وأديب الثَّورة والتَّمرد واللاَّمعقول، وهذه الأشياء
كُلُّها نابعةٌ من فلسفته الوجودية.
الرَّابِعُ: إشارة رولان بارت في عنوان كتابه “الكتابة في درجة الصِّفر” إلى
معنى الأدب في الفلسفة الوجودية، فدرجة الصِّفر هي الَّتي تتحرر من القيودِ
كُلِّها في الكتابة.
ولكن عزيزي القارئ لا يهمنا هذا المصطلح النقدي والأدبي المنتشر و إنما الذي
يهمنا هو الكتابة تحت درجة الصفر أي الكتابة في الأجواء الباردة حيث الصقيع
والثلوج فالأعمال الأدبية العظيمة للكتاب أشارت إلى هذا المعنى فنيقولاي غوغول
في رسالته إلى الكسندر ستوردزه (1850) يقول فيها :
«في هذا الشتاء، أمضي وقتاً بلا معنى في موسكو. لا استطيع ان اكتب شيئاً، ولا
أملك حتى القدرة على ذلك، ولا اعرف الى اين يأخذني الثلج والشتاء. لطالما
تملّكني الخوف».
والكاتب بوريس باسترناك في رسالته إلى أولغا فريدينبرغ (1940) يعبر فيها عن
قساوة البرد الذي يجمد الأشياء فيقول :
“تقضي اكثر من ساعة، والبيت بارد، فتشعر أن أي خفاف تنتعله لا يستطيع ان يحميك
من البرد . في القبو البطاطا والخيار أخذا يتجمدّان، فتشتمّ من هناك رائحة
العفن: كل شيء يمكن ان يموت… ولا يبقى اي اثر للحياة”.
وفي يوميات ” إيفان بونين “(1886) تصوير ووصف دقيق لحياته وسط البرودة
والليالي الشتوية الطويلة حيث الرتابة والملل يقول :
«البرد القارس لا يُحتمل، والكسل الجسدي يتملكني، تماماً كما الكسل في
التفكير. الوقت يمر من دون أي تغيير. هو ذاته. واذا كان الهدوء يلف الغرفة،
يمكنني أن أسمع صوت الكيروزين وهو ينقط من الماسورة… بالأمس كانت ليلة شتائية
طويلة… شيء ممل!».
وعبر أيضا الكاتب “إيفان تورغينيف في رسالته إلى بولينا فيادرو (1867) عن هذا
الجحيم الذي تحدثه العواصف الثلجية فتجعل الأشجار تنحني فيصف لنا بلغة ساحرة
هذا الجو الجنائزي الحزين فيقول :
“العاصفة الثلجية في الصباح تعوي، تبكي، تئنّ، وتملأ الشوارع في موسكو ،
فيما أغصان الشجر تحت نافذتي تنحني كأنها في الجحيم، وأصوات المسامير في
النعوش، ترسل اصوات حزينة إلى الاجراس… هكذا الطقس وهكذا البلاد “.
فأهم ملاحظة نخرج بها من خلال ما وصفه هؤلاء المبدعون عن الكتابة تحت درجة
الصفر أي انها كتابة وسط المعاناة والرتابة والملل و أصوات العواصف الثلجية
التي تبكي وتئن وتحزن فارتبطت الكتابة بمآسي الحياة وليست بمباهجها..

الكاتب والباحث في التنمية البشرية شدري معمر علي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المواضيع