الذاكرة الشعريّة(البوليفونية وتعدد الأصوات)عند الشاعرة جميلة مزرعاني/خيط من الماضي يومض

304

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

بقلم : كريم عبدالله – بغداد – العراق28/9/2020

شعريّةُ الذاكرة في القصيدة السرديّةالتعبيريّة .

أولاً : الذاكرة الشعريّة ( البوليفونية وتعدد الأصوات )عند الشاعرة : جميلة مزرعاني – لبنان / الجنوب – خيط من الماضي يومض …

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثرفهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعرالعربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذاالشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراءكثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدةالنثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنابدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهومهندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب منضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لهاحسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ مايُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدةالسرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصورأنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاءوالتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّهالسرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّةالعظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّةفأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججةوالأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيرهالأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّةالتعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عاليةوجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزانوالقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بينالفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضهاوكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلةبالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروحدون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدةالسرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضناالعربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانواأوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشاروأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدةالجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقياواميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتهاويحافظون على تطويرها .

سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبمايُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكنهذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السرديةالتعبيرية .

أنّالذاكرة هي المخزن الآمن والبعيد لآلآف الذكريات التي مرّت عينا , وهناك ذاكرةنشطة وأخرى خاملة , فالذاكرة النشطة هي التي تمتلكها الذات الشاعرة وبمقدورها أنتستحضر تلك الذكريات القديمة الغافية على ضفافها , وبثّ الروح فيها من جديد فيالزمن الحالي , هي لحظة الأمساك بالزمن الماضي والعودة به الى الزمن الحاضر من أجلفكرة معينة , او موقف معين , أو الأستشهاد بهذه الذكريات لغاية ما .

أولاً : الذاكرة الشعريّة ( البوليفونية وتعدد الأصوات )عند الشاعرة : جميلة مزرعاني – خيط من الماضي يومض …

أنّ ما يميّز هذا النصّ هو (التسجيل الصوتي ) حيث قامت الذاكرة هنا بتسجيل بعض الصور والذكريات ( الحسيّةوالبصريّة ) , تلك الذكريات الأثيرية التي تقودنا الى زمن الطفولة والبراءةوالنقاء , وخلق جوّ عاطفي يستثيرنا بكلّ تفاصيله . هذا من جهة , ومن جهة اخرى يمتازهذا النصّ بلغته البوليفونية وتعدد الأصوات فيه , كلّ هذا كان بفضل اللغة السرديّةالتعبيريّة المذهلة , ومن خلال اللغة السرديّة التعبيريّة تتجلّى بوضوحالبوليفونية وتتعدد الأصوات وكثيرا ما يختفي صوت الشاعر وراء الأفكار والرؤىوالصور المتعددة . في البوليفونية يتحرر النصّ من سطوة الشاعر و وتُطرح هذهالأفكار والرؤى والابديدلوجيات بشكل حرّ وحيادي , وكذلك تتعدد أساليب التعبيروالشخوص , بل وحتى الأجناس الأدبية في النصّ الواحد , وهذا ما لمسناه بوضوح في نصّالشاعرة : جميلة مزرعاني – خيط من الماضي يومض ) . في السردية التعبيرية فأنالأنحراف والخروج عن المعايير اللغوية يمكّن من توسعة الشخصية النصّية لتتعدىالشخصية الواقعية والمعهودة الى ما يمكن ان نسميه ( الشخصية النصّية ) . لقد تجلّتالبوليفونية في هذا النصّ من خلال هذه المقاطع النصيّة / تعالى الصوت المتهدّجمدوّيًا في فيافي ذاكرتي يصدح من غربة بعيييييييدة : الحياة يا أحفادي شقاء لأجلالبقاء / وكذلك / ردّني الصدى إلى خيط من الماضي حين كنّا نلتفّ حولهاكالعقد المرصوص نصغي بصمت مطبق / وكذلك / فيثير كلامها تساؤلنا بلثغةالطفولة عن معنى الشقاء ( الثقاء) تجيب بحسرة وعينين مثقلتين بالهموم : غدًا حينتكبرون ستعرفون وسرعان ما تغتال نظراتنا حكاياها المشوّقة / وكذلك / كنّانصرخ بأعلى أصواتنا هاتفين / تهمس قائلة : إخفضوا أصواتكم وأنتم تتحدّثون/ وكذلك / يسألها صغيرنا : لماذا يا جدّتي ؟ / وايضا / يا لك من عفريتصغير / وتردف قائلة : قدّو قد الفارة وصوتو ملّا الحارة / وكذلك / سوطالوالد ينهال علينا ضربًا تأديبًا وتأنيبًا من سوء سلوك أو تأخّر مدرسيّ / .وايضا تتعدد الشخوص النصيّة في هذا النصّ ونلاحظ ذلك في الشخصيات التالية وهيتتحاور بحرّية وعفوية دون تدخل الذات الشاعرة , فنجد شخصية / الجدّة / والذاتالشاعرة / والأحفاد / صوت الطفل الصغير / الوالد / . لقد استطاعت الشاعرة ومنخلال هذا النصّ البوليفوني المتعدد الأصوات أن تلتقط وتستحضر من ذاكرتها البعيدةالكثير من الأحداث الأثيرية والتى تركت أثرها الواضح في حياتها منذ الولادة والىهذه اللحظة التي تعيشها , حتى يبدو لنا وكأنّها ( الذات الشاعرة ) تتخيّل وبوضوحوتعيش تلك الأجواء والأحداث بتفاصيلها الدقيقة وشخصياتها المتعددة , وكاننا نسمعهذه الأصوات المتعددة التي تضجّ في هذا النصّ , وكأنّ ذاكرتها استطاعت ان تحرّكشريطا سينمائيا , فحذفت منه الذكريات الغير مهمة والتي قد تجعل منه مترهّلاً ,وحاولت تعضيد الأحداث المهمة والتي تتناسب مع أجواء وفكرة النصّ لغرض توظيفها داخلنسيجها الشعري , وربط هذه الأحداث مع بعضها البعض وتوحيدها وجعهلها قطعة متماسكةمن الذكريات , مما جعل المتلقي يعيش داخل النصّ ويستشعر بالأجواء فيه ويتملس هذهالأصوات ويستمع اليها بوضوح , ويعود من خلال هذا النصّ الى تلك الكتلة المتوهّجةمن الزمن والذكريات والشخصيات .

النصّ :

خيط من الماضي يومض …

تعالى الصوت المتهدّج مدوّيًا فيفيافي ذاكرتي يصدح من غربة بعيييييييدة : الحياة يا أحفادي شقاء لأجل البقاء ،ردّني الصدى إلى خيط من الماضي حين كنّا نلتفّ حولها كالعقد المرصوص نصغي بصمتمطبق فيثير كلامها تساؤلنا بلثغة الطفولة عن معنى الشقاء ( الثقاء) تجيب بحسرةوعينين مثقلتين بالهموم : غدًا حين تكبرون ستعرفون وسرعان ما تغتال نظراتناحكاياها المشوّقة ، يرشق تنصّتنا عطر رذاذ سردها الممتع ونحن على أحرّ من الجمرلنقبض على النهاية المرجوّة ، وكثيرًا ما كانت تعلّق سردها إلى يوم آخر هادفة إلىتشويقنا وترغيبنا للوصول بنا إلى عالم الخيال الجميل فتتحفنا في ختام كلّ حكايةبمثل شائع يؤرّخ في خاطرتنا بدائع الأدب الشعبيّ كنّا نصرخ بأعلى أصواتنا هاتفينتهمس قائلة : إخفضوا أصواتكم وأنتم تتحدّثون ، يسألها صغيرنا : لماذا يا جدّتي ؟يا لك من عفريت صغير وتردف قائلة : قدّو قد الفارة وصوتو ملّا الحارة ، فنغيب فيضحكة طويلة لا تنتهي ونأوي إلى أفرشتنا الوثيرة نغالب النعاس وبريق أعيننا يحتضرعلى وسادة المنام .آهمن جدّتي لأبي كانت تساكننا منذ وفاة جدّي رحمه الله كان للحياة طعم آخر بنكهةالحبّ الشهيّ فهي الحامية من سوط الوالد ينهال علينا ضربًا تأديبًا وتأنيبًا منسوء سلوك أو تأخّر مدرسيّ فتغمرنا بكلتي راحتيها نلوذ بحضنها الدافئ من عقاب قاسننجو بأنفسنا من ثورته العارمة فتبادلنا النظرات ببسمة المنتصر المنقذ من الهلاك .كم هي جدّتي وجه الخير والرحمة والحنان ، تركت فينا مخزونًا من القصّ الجميل مايزال راسخًا حتى اليوم كالنقش في الحجر .

جميلة مزرعاني

لبنان / الجنوب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر المقالات