شعراء لم يخونوا كرامة الكلمة وكرامتهم

538

نبيل عودة

 الشعراء هم أفضل رمز للمثقف في كل زمان، وخاصة في ثقافتنا العربية

دأب السلاطين دائمًا على استئجار قرائح الشعراء، وكيف لا، والشعر هو الوسيلة الاعلامية الأكثر انتشارًا في عالم العرب في وقت قلَّ من يعرف القراءة والكتابة، ولم تتغير الحال في وقتنا، انما تعمق تحكم السلاطين برقاب الناس وانفاسها.

ازداد عدد من يعرفون القراءة والكتابة، ولكن القراءة صارت من الكماليات في حياة العرب، اي لم يتغير الحال وظل الرواة والمحدثين من مروجي الحكايات الشعرية والغيبيات والخرافات والخوارق هم وسائل اعلام المجتمع.

حمل الشعر في وقته، الحكايات والأحداث، حسب مفاهيم ذلك العصر، وكان اما شعرًا هجائيًا أو مديحًا اما إذلالاً او تكريمًا، اما حبًا أو كراهية…أو بطولات اسطورية، وما زلنا في نفس الساحة لم يتغير فينا الا وسائل تنقلنا ونوع مساكننا، وأنواع أكلنا.

بالطبع السلاطين العرب ازدادوا عددا وأشكالا وتعددت مناصبهم طولا وعرضا، وارتفاعا وانخفاضا، وكثر الطلب على الدلالين والمداحين ومنظمي الكلام. وبما ان الشعر والشعراء هي أشهر ما تبقى في الذاكرة من موروثات تاريخ “الأمجاد العربية”، لذا طمع السلاطين بحشد الشعراء في صفوف “السحيجة”، ارادوا اخضاعهم لسلطانهم (بصفتهم حافظوا على مكانتهم كأهم وسيلة اعلامية الى جانب الدعاة والشيوخ الأجلاء، في مجتمع سماعي يرفض استعمال كماليات القراءة)، فاستأجروا قرائح الشعراء وذممهم، بصفتهم ممثلي الاعلام الشعبي، بعد ضمان الاعلام الإلهي بإعلانهم الرسمي المتكرر اسبوعيا بالورع وطاعة الله وتقديم قرابين الدولارات، وبصفتهم أولي أمره في دولهم وأحزابهم وقبائلهم.

ربما تكون بعض الحكايات التي نقلها التاريخ على ألسن الشعراء، مجرد تشويه للحقيقة التاريخية وتحريفها بما يتلاءم وحجم العطاء (القربان) الذي يهبه السلطان. حجم العطاء يقرر نوع المديح واعلاء شأن السلطان، وتمجيد كل ترهاته الكلامية وبطشه واستبداده وجعل غبائه وضيق أفقه استجابة لأوامر ربانية، وبالطبع تعداد بطولاته الحربية (مثل انتصارات العرب على الصهاينة والأمريكان) وفحولته الأسطورية، وتعداد صاحبات النعمة اللواتي فض سلطان زمانه بكارتهن.

ومع ذلك، تاريخنا يحدثنا عن شعراء لم يخونوا كرامة الكلمة وكرامتهم، وكان مصيرهم الجوع والعوز أو الموت بسيف سياف السلطان.

ويبدو أن الحال لم يتغير في بلاد العرب وفي بلادنا، فما زال الشعر مزايدة تهدف الى احتلال المكانة في رأس الصف، والحصول على المراد بالموهبة والحق، وهو مجد ما بعده مجدًا، وتذكرة تسمح بالصولان والجولان في دنيا السلاطين ودنيانا كلها سلاطين… من السلطان الكبير ووريثه حتى سلاطين الأحزاب والتنظيمات القومية والالهية.

هل بالصدفة أن أهم شعراء العرب البارزين في العصر الحديث، قضوا جل حياتهم بعيدًا عن بلادهم وعن سلاطين بلادهم حتى لا يطولهم سياف السلطان بحربته الجاهزة لقطع الرؤوس؟

قرأت للكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني مقطوعة عن معاناة الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي تمسك بالوطنية والصدق ورفض كيل المدائح الشعرية للملك فيصل في العراق وزلمه امثال نوري السعيد، فجاع، ولولا الجيران والاصحاب لمات جوعًا.

الرصافي اختار الموت معوزًا جائعا على الموت في بحبوبة السلطان. كان معروف الرصافي يستدين من بقالة في الأعظمية لشخص اسمه جمعة العطار، ولكنه يعجز عن سداد دينه، حتى قرر جمعة العطار وقف تزويد الشاعر بما يسد رمقه، حتى يسدد ما تراكم عليه من ديون، لكن من اين للرصافي ان يسد ديونه المتراكمة وهو يرفض الخضوع لسلطان زمانه الملك فيصل ويمدحه بغير وجه حق؟! فما كان من الرصافي إلا أن كتب بيتين من الشعر يُنفس فيهما عن مشاعره، على الظلم والتعسف الذي لحقه من جمعة العطار، الذي ربما رأى فيه سياف السلطان، الذي يقطع الرؤوس بالجوع، وهي تكنلوجيا حديثة ابتكرها العرب، ولم يحصل مبتكرها على نوبل، ولو كان مبتكرها يهوديا لجاء نوبل من قبره ليقدم الجائزة المرجوة.

قال الرصافي:

عجبت لأهل الأعظمية كيف لا يرضون جيرة جمعة العطار

جاورته زمنًا وكان جواره في منتهى الانصاف، شر جوار

جمعة العطار لم يتراجع عن موقفه، مات الرصافي فقيرًا معوزًا جائعًا ولم يخن كرامته الوطنية ومصداقيته، لكنه خلد في شعره جمعة العطار، قاطع الرقاب بالجوع.

اليوم أصبح الكثير من الشعراء بغنى عن جمعة العطار وتحكمه، ولكنهم أكثر بعدًا عن الرصافي واعتزازه بنفسه وأدبه.

فقدت الكلمة قيمتها، وباتت الصفحات مليئة بالمدائح لمن لا يستحقون أكثر من بصقة. أصبحت الوطنية تقاس بعدد الكلمات وضخامة معانيها. أصبح التهريج مقياسا للوطنية وصار كل مكتشف لسر صياغة الكلام شاعرا وطنيا بعد ان كان منخرسا حفاظا على نفسه ومصالحه ومداخيله.

إنخرسوا حين كان شعبنا يدفع ثمنا رهيبا بحريته وبلقمة خبزه.

اليوم يريدون اقناعنا بمصداقيتهم الوطنية والشخصية، بل ويتدافشون على موطئ قدم في ساحات التحرير.

أقنعوا “جمعة العطار” الذي تمتلئ رفوف دكاكينه بما لذ وطاب من نعم، بأنهم نعم الزبائن، فابشروا وانشروا تفاهاتكم، ما تزال جوارير السلاطين الصامدين ملأى بالدولار واليورو والشيكل.

أين من ينشر ويكتب اليوم قصائد التحدي السياسي الوطني مثل “سجل أنا عربي” التي أطلقها محمود درويش و”سجل اسمي في القائمة السوداء” التي أطلقها سالم جبران، في ظل أشرس هجمة للسلطة الصهيونية الغاشمة لتقييد حرية الحركة للأدباء والمناضلين الشرفاء، بفرض اقامات اجبارية هي أشبه بسجن داخل حدود بلدات ضيقة، لأنهم وقفوا بصدورهم المتحدية، وأكفهم العارية يتحدون بطشها وعنصريتها، قيدت حرية الذين ولدتهم امهاتهم أحرارا وما كان لأي بطش ان يكسر عزيمتهم واصرارهم على حقوقهم وحريتهم؟

لم يكسرهم تعسف السلطان، واغلاق جمعة العطار (الصهيوني) ابواب سد الرمق امامهم وأمام أطفالهم.

شعراءنا ومثقفينا ومناضلينا وشبابنا وشيوخنا ونساءنا ورجالنا لم يهادنوا السلطان حتى في أحلك ايامه وأكثرها سطوة وتعسف، نحن مجرد أقلية فقدت وطنها، تعلمت ان لا تحلم بنخوة السلاطين لنجدتها وان تعتمد على ذراعها وقدراتها، فقدت تواصلها القومي مع الشعوب العربية الذين قهرهم سلاطينهم بالفقر والارهاب.

كانت طليعة مناضلة هي توائم لمعروف الرصافي، واجهت وأفشلت بأجسادها، مؤامرة الطرد من الوطن، حين كان المتنعمون اليوم “يقرفصون” على عتبة السلطان. أين هم من شعراء صلبوا في الزنازين (توفيق زياد صلب في سجن طبريا لإصراره على التظاهر في اول ايار 1958) وشتتوا بالسجون والمنافي؟! اين هم اليوم من مثقفين لم يرضوا حتى بالصمت، وجاهروا بمواقفهم وطردوا من التعليم ومن العمل، وضيقوا مصادر الرزق عليهم، ولم يشتروا رضاء السلطان حتى بكلمة كاذبة.

لا أريد التعرض ل “عباقرة” الشعر والنثر والفلسفة والسياسة اليوم، ولا للذين صاروا سحيجة لكل ما يصاغ نثرا أو شعرا، بعملية تخريب وافساد لم أجد في تاريخ الشعوب الثقافي أو السياسي مثيلا لها.

حتى اللغة فقدت قيمتها، لا أهمية لما تنشر، المهم ان تضبط قواعد اللغة وتملأ صياغاتك بياض الجريدة أو صفحات الكتب.

الويل لك اذا القي القبض على خطأ لغوي، مسموح لك ان تخطئ في استقامتك، ان تخطئ في مصداقيتك، ان تخطئ في شرفك، ان تخطئ في وطنيتك، ان تخطئ في مدح السلطان، ان تبيع نفسك ببعض الفضة، ببعض الشواقل ولكن الويل اذا أخطأت بتشكيل آخر الكلمة.

الذين لا شعر أو نثر فيما ينشرون، ولا معنى لما يكتبون، وبلا لغة مفهومة … فما قيمة اللغة عندما تصبح كلمات لا معنى لها؟ كيفما قرأتها من فوق الى تحت أو بالعكس لا يتغير المعنى، ويجب ان تقر رغما عنك، انك امام مبدع طال انتظارنا له، أكثر من انتظار اليهود للمسيح .. المهم ان تضرب بسيف السلطان، مهما كانت مرتبته متدنية، أو مجموعة سلاطين اذا كنت عبقريا، وسنسميك شاعرا وكاتبا وناقدا وأديبا عبقريا وسياسيا وطنيا بعثيا ناصريا وشيوعيا وحزبيا الهيا ومفكرا عربيا في أحضان امراء النفط ودولاراتهم، ومناضلا لم يبدأ النضال والصمود الا مع ظهوره وتجليه بعد أن صمت طويلا، وحين صار ضامنا للدخل من سلطان أو أكثر، تفتحت مواهبه الوطنية والابداعية.

الشاعر الوطني جدًا، على آخر العمر…لا يفهم ما يكتب، فكيف يفهم القراء؟!

كان السلطان يستأجر القرائح بالمال والخوف من سيف سيافه، فصار “السلطان” يستأجر القرائح بالألقاب والنشر والمدائح، والتصنيف الوطني… بعد أن استتب أمن المعاش، وزال الخوف من المجاهرة بالرأي !!

هل الرأي الذي يطرح حين تزول المخاوف، له نفس قيمة الرأي الذي يطرح ويتعرض صاحبة لبطش السلطان ؟!

هل الراي الذي يطرح بتفكير واختيار صعب للمعاني، للتحايل على قوانين السلطان، قيمته نفس قيمة الرأي الذي يقال بدون أي حساب وبدون أي تفكير وبدو ملابسات تعرضك للبطش السلطاني ؟!

هناك شعراء قتلهم شعرهم، واليوم تقتل التفاهة الشعر، تقتل الأدب الجيد، تقتل المواقف، تقتل العقلانية، تقتل الفكر، تقتل اللغة، تقتل الكرامة الشخصية وتقتل رغبة القراءة لدى القراء. يقول الشاعر محمود درويش :”الشعر هو الذي يعيد الحياة الى اللغة” وفي عصر شعري مثل عصرنا المأزوم (داخل اسرائيل على الأقل) الذي استهلك اللغة وأهانها. نحتاج حقًا الى إعادة تفكير، وإعادة ترتيب بيتنا الثقافي، والفصل بين الأدب وبين الضحالة التي اغرقتنا، علنا نُعيد للكلمة رونقها، وللنص جماليته، وللغة معناها وقيمتها، وللشعر اسطورته، وللأدب قيمته التي نفتقدها، وللعقلانية منبرها ومكانتها، وللعقلانية سطوتها.

امنيات، لكن تجربتنا علمتنا انه لا شيء مستحيل !!

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع