الكلمة الشّخص بوصفه قوّة تفيض على الوجود بأسره

474

مادونا عسكر/ لبنان

“في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.

هذا كان في البدء عند الله.

كلّ شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان.

فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور النّاس،

والنّور يضيء في الظّلمة، والظّلمة لم تدركه.” (يوحنّا 5،1:1)

من عمق التّأمّل العاشق ووعي العقل المستنير ورصانة العلاقة بالرّبّ، يكتب القدّيس يوحنّا ما يبدّد كلّ قلق أو شكّ أو صراع يربك الوجود الإنسانيّ في بحثه عن سبب وجوده وهدفه. وكلّ التّأمّلات والأبحاث الماضية والحاضرة الّتي ستكون حتّى نهاية التّاريخ، لن تصل إلى المعنى الحقيقي للوجود ما لم تنطلق من المبدأ. وعلى الرّغم من اختلاف الاختبارات والانتماءات والعقائد إلّا أنّ المبدأ واحد، لأنّه مبدأ الحبّ الإلهيّ. فالحبّ الإلهيّ  واحد وفيضه واحد وتدفّق نوره واحد وكلمته واحدة.

(في البدء كان الكلمة) عبارة تأخذنا إلى البدء/ المبدأ، لا إلى البدء كنقطة الصّفر. ولو قصد القدّيس يوحنّا (البدء) بالمعنى الّذي يرمي إلى البداية كنقطة انطلاق لأتى المعنى خاطئاً. لأنّه إذا اعتبرنا أنّ البدء يرادف البداية فكأنّنا نقول إنّ الله لم يكن ثمّ كان، أو إنّ لله بداية. حاشا.

لم يكتب يوحنّا من فراغ، ولم يكن عقله وفكره موجّهين نحو التّراب. فكما كانت روحه محلّقة كذلك كان فكره يهتمّ بما فوق. والاهتمام بما فوق مبدأ البحث وغايته. لكنّ القدّيس يوحنّا يبلّغنا النّتيجة، فيبذر في فكرنا وروحنا شعاعاً يدلّنا على الحقيقة (في البدء كان الكلمة). فإذا تبعنا هذا الشّعاع فهمنا ومشينا نحو النّور الأصل وإذا أحببنا النّور عرفنا.

المبدأ الكلمة حاضر منذ الأزل وإلى الأبد (والكلمة كان عند الله). ولما كان عند الله فهو بالضّرورة كائن معه. والفعل (كان) لا يشير إلى حالة ماضية بل إنّه يشير إلى كينونة الكلمة وحضورها الّتي ستدلّ عليها عبارة (وكان الكلمة الله). في هذا التّحليق العظيم يحكي يوحنّا مبدأ الوجود وغايته. ويرسم الدّائرة الوجوديّة الّتي إذا ما دخلها الإنسان فهم سرّ وجوده وسار نحو الغاية الأسمى، الله. ولئن كان الكلمة هو المبدأ كانت الصّيرورة إليه. فالإنسان ذاهب إليه لا محالة بغضّ النّظر عن أيّ شيء وعن كلّ شيء. فالكلمة هو النّور (فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور النّاس)، والكلّ منجذب إليه بحكم النّور لا بحسب القرار بالانجذاب. لذلك فالكلّ ماضٍ إليه. لكنّ المفارقة في قرار الانطلاق نحو النّور وعدم الاختباء منه. فالاختباء منه كفعل رفض هو بمثابة الخروج عنوة من دائرة الله. ما يؤدّي إلى الاضطراب والقلق الإنسانيّ. فالنّور حياة للنّاس والحياة الحقيقيّة هي النّور. وإذا احتجب الإنسان عن النّور احتجب عن الحياة ومات. فمسيرة بحثه عن سبب وجوده وغايته بمعزل عن النّور، موت. لذلك من العسير أن يبلغ هدفه في اكتشاف سرّ وجوده.

إذاَ، فنحن موتى إلى أن نحيا بالكلمة. موتى، نسير في هذا العالم، نبحث دون جدوى. تقلقنا الأفكار والتّساؤلات ولا يطمئننا شيء. فأنّى للموتى أن يحقّقوا أهداف العقل ويشبعوا ظمأ الرّوح؟ الأحياء فقط يستطيعون؛ لأنّهم مرتبطون بالنّور الحياة. النّور الإلهي، الكلمة، قوّة تفيض على الوجود بأسره، منها ينهل الإنسان المعرفة. فالعلاقة بالنّور الإلهي لا تقتصر على الرّوحانيّات، بل إنّها علاقة وجوديّة تنير العقل ليفهم وتستبيح القلب ليعرف. ويحدّد القدّيس يوحنّا أكثر سبب الوجود وغايته بقوله (كلّ شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان)، وبذلك فالوجود مرتبط بالكلمة الشّخص، ومن دونه لا وجود له، وخارجاً عنه تيه بل موت.

الكلمة النّور، العقل الإلهيّ الّذي يجذب العقل الإنسانيّ ويتفاعل معه فيستنير ويتعقّل إلهيّاً. والكلمة النّور، حياة، بها يحيا الإنسان بكلّيّته مع الله فتنطلق روحه حرّة متأمّلة أنوار الله. (والنّور يضيء في الظّلمة، والظّلمة لم تدركه) الظّلمة جانب من الجوانب الإنسانيّة ولا يكتشفها الإنسان إلّا بارتباطه بالنّور. فماذا يرى في الظّلمة إلّا الظّلمة؟ وبقدر ما يقترب من الكلمة تنكشف له جوانبه المظلمة فيسعى جاهداً للتّخلّص منها. وبذلك يقترب أكثر حتّى يحترق حبّاً، فيحرقها ولا يبقى منه إلّا النّور. لو لم يكن الكلمة حبّ لما كان نوراً ولما أضاء للنّاس ولكانت الظّلمة أدركته.

الوجود قائم على “الكلمة” الشّخص، يكون به، ينمو به، وينتهي إليه. تلك هي الخلاصة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع