استعمالات العقل بين العمومي والإجرائي

702

د. زهير الخويلدي

” أي شيء يستطيع العقل البشري تصوره والإيمان به، تتمكن الإرادة الإنسانية من
تحقيقه”

لقد دأبت السلطة على استغباء الشعب ونشر التفاهة واحتقار الفكر وحجب الحقائق
عن الناس واستخفت بالعقل وحاصرته وزينت للجمهور الاستهلاك والتقليد ودعته إلى
الرضوخ والاستسلام للعادات والسائد، غير أن الوعي الذي يشتغل داخل صخب الواقع
وينمو في كنه الذوات المتحاورة يرفض هذه المواقف التافهة والمتحاملة ويدخل في
اشتباك مع اليقين والتصديق القبلي ويتسلح بالتساؤل المفكك والشك المحير.

في الواقع يختلف الاستعمال العامي للعقل من طرف الإنسان العادي عن الاستعمال
العمومي له من طرف الكائن المفكر والخبير المحاسب والمثقف العضوي. فماهو العقل
يا ترى؟ وما دوره في حياة الإنسان؟ هل له أدوار خاصة أم عمومية؟ وفيم تتمثل
أدواره العمومية؟ هل يمثل العقل أداة جلب المصالح الجزئية وتحقيق النجاعة
السياسية والاقتصادية أم مملكة الغايات وفضاء للحوار والتواصل والنقد؟ وماهي
حدوده؟

مفهوم العقل هو جوهر، وقوة فاعلة، وملكة معرفية  تحولت إلى ممارسة واعية
للنقاش، وتجربة تواصلية بين الذوات المتحاورة. يمكن التمييز بين المعقول
والمحسوس، بين العقل والذهن، بين العقل المحض والعقل العملي، وتحديد مفهوم
العقلانية بوصفها مضادة للتجريبية، أما التعقل من حيث هو نشاط عقلاني فهو يسمح
بالتطرق إلى المعقوليات المتعددة والمفتوحة في العلوم والممارسات الإنسانية
الجديدة، ويجعل من بنية العقل تتطور وتتغير وفق تغير المعارف التي ينتجها. كما
يحتكم العقل إلى جملة من القواعد والقوانين تجعله يتفق مع ذاته ويسعى للتكيف
مع الواقع الخارجي. من هذا المنطلق تكمن قيمة العقل فيما يمنح الإنسان مرتبة
إنسانية يتفوق بها عن بقية الكائنات، وتجعله يساهمه في تنظيم الفوضي وترتيب
ضرورات الحياة وتحقيق السعادة. من اللازم إبراز الإنسان من حيث هو كائن عقلاني
لأن العقل ميزة بشرية تساعده على التغلب على المشاكل والصعوبات في حياته
وتنظيم علاقاته مع الآخرين واكتشاف العالم المحيط به. كما أن مطلب التفكير من
خلال استخدام العقل بشكل منهجي هو طريق التفوق.

البعض يعطي للعقل قيمة ثانوية جزئية يمكن استكمالها بملكات أخرى على غرار
التجربة أو النص أو التاريخ أو اللغة ويؤدي أدوارا جانبية ومهام ترتيبية. ولكن
الموقف الحاذق هو التعامل مع العقل في الحياة العمومية من حيث هو  قيمة أساسية
كلية في المعرفة والوجود والتشريع والالتزام. والآية على ذلك أن العقل يقوم
بدور تأسيسي مركزي ، وتتراوح الأدوار الخاصة للعقل بين الوثوقية والريبية
بينما تتحرك الأدوار العمومية بين النقدية والتواصلية.من المرجعيات الفلسفية
التي اشتغلت على العقل نذكر أفلاطون وأرسطو، ديكارت وهوبز وكانط وهيجل وماركس،
مدرسة فرنكفورت : هوركايمر وأدرنو وهابرماس، سارتر وفوكو وريكور وغادامير. كما
يختلف الاستعمال الأداتي للعقل الذي تتمثل في تحقيق جملة من المنافع الخاصة
مثل كسب النجاعة والثروة والسلطة عن الاستعمال الغائي للعقل الذي يسعى إلى
تحقيق جملة من الأهداف الكلية مثل التواصل والحرية والنقد والانتصار إلى القيم
المدنية والسلم الأهلي. في الحياة الملموسة يكمن الاستعمال الثوري للعقل في
إحداث التغيير الجذري في الواقع الموضوعي والقضاء على الجهل والتخلف وزرع قيم
التحضر والتقدم والاحتكام إلى العقل التطبيقي بغية التغلب على المشاكل
المادية. لكن ألم يقل سينيكا بأن “الصعوبات تقوي العقل كما يقوي الجهد في
العمل عضلات الجسم”؟ فماهي العراقيل التي تمنع العقل من أداء مهامه الجوهرية؟
وكيف يمكنه أن يتعامل معها؟ ألا يجدر به أن يعقل ذاته ويسعى إلى تطوير نفسه؟

*كاتب فلسفي*

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.

آخر المواضيع